أطفال محكومون بالأعمال الشاقة

يوليو 1, 2022

A-

A+

 

شاخت أحلامهم قبل أن تكبر أجسامهم النحيلة. يلطّخ وجههم وملابسهم سواد الحياة الضائعة في الشوارع والورش … تلتقي بهم عند قارعة الطريق يبيعون العلكة أوالسمسمية والحلويات على أنواعها، أو الورد والمناديل الورقية وأوراق اليانصيب … أو قد ترى أحدهم عند الميكانيكي يلقي بجسده الصغير فوق السيارة الضخمة غير عابئ بخطورة الأمر، أو حاملاً “صاروخ الحدادة” غير آبه لخطورته القاتلة. قد تأسف حينها عليه وعلى عمره الغض الذي يفنيه باكراً في العمل المضني، إلّا أنك ستتابع طريقك لاهثاً وراء مشاغل الحياة ويبقى الطفل يبيع اللبان والجسد الصغير رهين الآلة وصاحبها.

كان أحمد (12 عاماً) يحلم بأن يصبح معلّم مدرسة، وها هو اليوم يشقى ليصبح معلّماً من نوع آخر. يصل إلى ورشة الحدادة في السادسة صباحاً ولا يغادرها قبل السادسة مساءً. أمّا غسان (11 عاماً) الذي ترك قريته في الشمال ليحصّل لقمة عيش في محطة للوقود في طرابلس، فيفتقد لعطر الزعتر والقصعين فيما لم يعد يتنشّق سوى روائح المازوت والبنزين التي تعبق بها ثيابه الرثّة. وتكثر حكايات الأطفال الذين، هم أيضاً، جار الزمان عليهم.

أرقام قليلة ولكن ضخمة

رغم ندرة البيانات الرسمية المتعلقة بنسب الفقر في لبنان، تشير الأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية إلى أنّ الفقر تضاعف تقريباً ما بين عامي 2019 و2021، مما أثر على 82% من السكان، فيما كشف تقرير للبنك الدولي عن توسّع هائل في حزام الفقر في لبنان، ليضمّ فئات جديدة تبلغ نحو 2.3 مليون نسمة من المقيمين. كما يتحدّث خبراء اقتصاديون عن معاناة 80% من الشعب اللبناني من الفقر بسبب التدنّي القياسي لمستويات الدخل وانهيار سعر صرف الليرة. أرقام ووقائع، وإن لا تبرّر عمالة الأطفال، تضعها في الواجهة دون أي إجراءات رادعة أو حلول محتملة تصدر عن السلطات الرسمية احتواءً لتفشّي هذه الجريمة.

بالفعل، مع اشتداد وقع الأزمة الاقتصادية الحادّة، وجد الكثير من الأطفال أنفسهم أمام خيار واحد هو العمل. ويشير تقرير نشرته منظمة “اليونيسف” في شهر تشرين الأول من العام الماضي، إلى أنّ حوالي 1.8 مليون طفل، أي أكثر من 80 في المائة من الأطفال في لبنان، باتوا يعانون من فقر متعدّد الأبعاد، بعد أن كان العدد حوالي 900,000 طفل في عام 2019. وهم يواجهون خطر تعرّضهم للانتهاكات مثل عمل الأطفال أو زواج الأطفال ، بهدف مساعدة أسرهم على تغطية النفقات. كما  يحدّد التقرير أنّ 12% من الأسر المشمولة بالاستطلاع أرسلت طفلاً واحداً على الأقل الى العمل، وهي نسبة ارتفعت من 9% إلى 12% في غضون ستة أشهر.

في الأرقام أيضاً، أكثر من مئة ألف طفل دون سن الثامنة عشر عاماً يعملون على الأراضي اللبنانية. ورغم القوانين اللبنانية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنيّة بحقوق الطفل، لا سيّما اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1991، لا يزال مشهد الأطفال العاملين حاضراً، بل أصبح مألوفاً، ففي كل مطعم ودكان ومتجر… أطفال يعملون و… يُستغلّون.

القوانين والقرارات والمعاهدات … حبر على ورق

براعم صغيرة تدهسها عجلة الحياة باكراً وتشكّل ما يُعرف بظاهرة “عمالة الأطفال” المحرّمة دولياً، إذ تفرض المعاهدات أن يتعدّى عمر الطفل الخمسة عشر عاماً لكي يُسمح له بالعمل، على اعتبار أنّ الطفل، أثناء قيامه بعمل ما وفي ظروف قاسية، قد يتعرّض لأذى صحّي وضرر عقلي واضطراب نفسي يؤخّرون، بل يعيقون نموّه السليم. فعندما يعمل الطفل يُحرم من طفولته، وكل نشاط يحرم الطفل من طفولته يُصنّف في خانة عمل الأطفال.

ظاهرة عمالة الأطفال في لبنان ليست مستجدّة ولكنها تفاقمت مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخانقة التي لم تشهد البلاد مثيلاً لها في تاريخها، وفق تقييم الخبراء الاقتصاديين المحليين والجهات الدولية. وزادت من وطأتها موجات النزوح السوري إذ تحوّلت أعداد كبيرة من أطفال النازحين السوريين إلى “متسوّلين مقنّعين” يتحرّك بعضهم بناءً لتعليمات عصابات منظّمة. حتى أنّ الرُضّع قد تمّ تسخيرهم لأغراض تحصيل المال.

في المقابل، يبقى التدخل الرسمي للحدّ من تفشّي الفقر وبالتالي من عمالة الأطفال، دون المستوى المطلوب، بل معدوماً، علماً أنه منذ العام 2019، أي قبل تراكم الأزمات اللاحقة بلبنان من تفشّي جائحة كورونا وانهيار الاقتصاد، إلى آخره من المآسي، يتمّ التداول بأرقام تحصي الأطفال العاملين وتُحدّد أعدادهم بـ”أكثر من 100 ألف طفل تحت سن الـ 18 عاماً، يعملون على الأراضي اللبنانية، 35 ألفاً منهم لبنانيون يعملون في قطاعات مختلفة، وخصوصاً القطاعين الصناعي والزراعي”، ما يجعل لبنان من الدول التي تسجّل أعلى النسب في العالم للأطفال العاملين رغم أنّ قانون العمل الحالي يحظّر عمل الأطفال في الأعمال الصناعية تحت سن الخمس عشرة سنة.

في العام 1991، تألفت في لبنان اللجنة النيابية لحقوق الطفل ومهمتها وضع التشريعات الضرورية من أجل وضع اتفاقية حقوق الطفل التي وقّعها لبنان في العام ذاته موضع التنفيذ. كما انشىء في العام 1994 المجلس الأعلى للطفولة الذي كُلّف وضع خطط وبرامج خاصة بوضع الأطفال في لبنان. إلّا أنّ الملاحظ عدم تطبيق التشريع المتعلّق بتشغيل الأطفال من ضمن قانون العمل اللبناني الذي عُدّلت بنوده في هذا الشقّ في تموز 1996 حيث رُفع الحدّ الأدنى لتشغيل الأطفال إلى ثلاث عشرة سنة بدلاً من ثماني سنوات، على أن يكون رب العمل مسؤولاً عن التحقق من عمر كل من الأطفال العاملين. كما حدّدت بنود هذا التشريع الحدّ الأقصى المسموح به لساعات العمل بسبع ساعات يومياً تتخللها ساعة استراحة. ويُمنع أيضاً تشغيل الأحداث قبل إتمامهم سن السادسة عشرة في أعمال تهدّد حياتهم، كما يُمنع توظيفهم في أعمال صناعية أو منهكة لصحتهم قبل إتمامهم الخامسة عشرة من العمر.

رغم ذلك، يتضارب عمل الأطفال مع القوانين اللبنانية والاتفاقات الدولية الراعية لحقوق الطفل التي وقّعتها السلطات اللبنانية. وهنا يتساءل كثيرون من العاملين في مجال رعاية الأطفال، عن دور وزارة العمل اللبنانية، بالتصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة، لأنها تؤدّي دوراً رئيساً في المجال عبر أجهزة التفتيش واللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال ووحدة مكافحة عمل الأطفال.

الفقر وأسباب أخرى … والأخطار بالمرصاد

تتعدّد الأسباب وراء إنتشار ظاهرة عمالة الاطفال. فإلى الفقر الذي يشكّل حافزاً أساسياً للدفع بالأطفال إلى سوق العمل وبالتالي زيادة نسب عمالتهم، تُضاف عوامل أخرى، بعضها تقليدي يتعلّق بمتابعة الأطفال خطى آبائهم في أعمالهم اليدوية أو أعمال أسرهم الحرفية، وعدم إدراك الأهالي الآثار السلبية والضارّة الناتجة عن عمل الأطفال في سن مبكّر، وانتشار بعض القناعات الاجتماعية التي تشجّع على عمل الأطفال، كما المشاكل المالية والديون المتراكمة التي تعاني منها العائلات التي تدفع بأطفالها للعمل لسداد هذه الديون. أضف إلى ذلك التفكك الأسري الذي يودي بالأولاد إلى الشوارع لتأمين معيشتهم وإعالة أنفسهم و/أوالهرب من عنف منزلي جائر.

وغالباً ما يقع هؤلاء الأطفال ضحية استغلال أصحاب العمل بما أنهم يتقاضون رواتب  وأجوراً زهيدة، وهم لا يعرفون حقوقهم. أمّا حجّة رب العمل: الطفل العامل هو ابن أقربائه الذي يقدّم لهم “المساعدة” بتشغيله ولدهم.

تداعيات كثيرة تلحق بالطفل العامل ليس أقلّها تهديد حياته، وحرمانه من حقّه في التعليم، والمسّ بكرامته وسلامته الجسدية والنفسية لا سيّما في حالات الاستغلال الجنسي. وتؤكد الطبيبة النفسية رحيل بهيج أنّ الأطفال العاملين يتعرّضون للعديد من الاعتداءات الجسدية والجنسية، إضافة إلى سوء المعاملة العاطفية، ويتمثّل ذلك بالعقاب البدنيّ كالضرب، أو من خلال الشتم واللّوم والرفض والإهانة، إلى جانب إهمال تأمين احتياجاتهم من الغذاء والمأوى والعلاج والملابس. ويظهر سوء معاملتهم على شكل إصابات مختلفة في أجسامهم كالحروق والجروح والكسور إضافة إلى الإرهاق والدوار، وغيرها من آلآثار. وتشير بهيج إلى أنّ هذه الآثار تختلف باختلاف الأعمال التي يقومون بها، ولكنّها بالمجمل تعود بأضرار عديدة على صحّتهم على المدى الطويل، بالإضافة إلى الأذى النفسي الذي يلحق بهم.

وتلفت بهيج إلى أنّ النشاط الاجتماعي لهؤلاء لأطفال يتأثّر سلباً بسبب العمل، فبدلاً من قضائهم مرحلة الطفولة باللعب مع غيرهم من الأطفال، والاستمتاع مع أفراد عائلاتهم، والتفاعل مع الآخرين بطريقة سليمة وصحيحة، فإنّهم يقضون الكثير من الوقت في العمل، ممّا يؤدّي إلى ضعف قدراتهم على التواصل الاجتماعي بالأسرة والمجتمع، إلى جانب ضعف كبير في بناء شخصياتهم، وانخفاض ثقتهم بأنفسهم، فيواجهون مشاكل نفسية كالاكتئاب. كما أنّ الأطفال والمراهقون الذين يعملون أكثر من عشرين ساعة في الأسبوع معرّضون لاكتساب عادات سيئة كإدمان المخدّرات، إضافةً إلى نموّ السلوك العدوانيّ لديهم. وتعرّضهم للتنمّر والمضايقات والرفض من قبل زملائهم وأقاربهم، وعدم تلقّيهم معاملة عادلة، ينمّون لديهم العزلة ويضعفون روابطهم العاطفية وقد يعزّزون إمكانية ممارسة سلوكيات خطيرة كالجرائم.

من جهتها، تلفت الناشطة الاجتماعية ربى دبور إلى العواقب التي تهدّد النمو الجسدي للطفل الذي يُستغلّ اقتصادياً إذ يصاب تناسقه العضوي وقوة عضلاته وبصره وسمعه، نتيجة الجروح والكدمات أو الوقوع من أماكن مرتفعة، إضافةً لحالات الاختناق الناتجة عن التعرّض للغازات السامة وصعوبة التنفس أو النزيف. وعلى الصعيد المعرفي، تنخفض قدرات الطفل على القراءة والكتابة والحساب والإبداع، كما يتراجع تطوّره العاطفي، فيفقد احترامه لذاته وارتباطه الأسري وتقبّله للآخرين، وذلك جرّاء بُعده عن الأسرة ونومه في مكان العمل وتعرّضه للعنف من قبل صاحب العمل أو من قبل زملائه. أمّا تطوّره على المستوييين الاجتماعي والأخلاقي، بما في ذلك شعوره بالانتماء للجماعة والقدرة على التعاون مع الآخرين، فهما رهن بتدنّي قدرته على التمييز بين الخطأ والصواب، واحتمال تحوّله إلى “عبد” لدى صاحب العمل،…

وسائل الإعلام والجمعيّات على خط المواجهة

نظراً لما لظاهرة عمالة الأطفال من انعكاسات سلبية ضخمة تؤثّر كما على الطفل كذلك على المجتمع، يُفترض العمل على جبهتي تطبيق القوانين وتحسين ظروف عيش الأطفال في غياب الحلول الجذرية والحاسمة في مواجهة ارتفاع نسبها وأخطارها. ويجمع الخبراء في القانون والناشطون في مجال المساعدة الاجتماعية على وجوب تفعيل القوانين العقابية التي تحمي الأطفال، وتحول دون استغلالهم في العمل، ومحاسبة كل من يمارس العنف ضدّهم، في موازاة تفعيل خطة إستراتيجية وطنية من شأنها القضاء على ظاهرة عمالة الأطفال، على أن تشمل التأهيل النفسي للأطفال والتدريب المهني وضمان البيئة الاجتماعية اللائقة وتوفير التعليم المجاني لهم. على أن يتمّ تأمين مصدر دخل للأسر الفقيرة حتى لا تجبر صغارها على العمل، وذلك من خلال إشراكها في مشاريع صغيرة ومنحها قروضاً ميسّرة، إضافة لمكافحة العصابات المافياوية التي دأبت على استغلال الأطفال وتوظيفهم على أرصفة الطرقات. ودعماً لهذه القضية المصيرية، يوصي الخبراء بزيادة نسبة حملات التوعية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كإطلاق  هاشتاغ #لا_لعمالة_الأطفال… مثلاً.

يبقى عمل الجمعيّات الأهلية مؤثراً بالدرجة الأولى في ظل الأوضاع الاجتماعية الراهنة. فالعديد من الجمعيّات يعمل على انتشال الطفل من وضعه المزري وتأمين الدعم له بالدرجة الأولى، كـ”منظّمة إنقاذ الطفولة”   Save the Children وجمعية “حماية” اللتان تعملان على مستويات عدّة متوازية لمساعدة هؤلاء الأطفال، كالسعي لتحسين ظروف حياتهم، وتوعيتهم على حقوقهم، وتأمين مورد عيش بديل لهم. كما يتمّ تدريب الأهل مهنياً لمساعدتهم في إيجاد عمل وتنظيم جلسات دعم لهم، وتحفيز أرباب العمل لتحسين ظروف عمل الأطفال الذين يسمح القانون لهم بالعمالة.

من جهتها، تعمل منظمة “اليونيسف” في لبنان على معالجة قضايا حماية الطفل من ضمن مواجهتها لـ”أكبر أزمة للاجئين في العالم”. لقد أطلقت برنامج “حماية الطفل” لضمان نموّ جميع الأطفال المعرّضين للخطر أو الناجين من العنف والاستغلال وإساءة التعامل، في مجتمعات ومؤسسات آمنة، ولتأمين حصولهم الى الخدمات الجيدة.

  • للمساهمة في مكافحة ظاهرة عمالة الأطفال، يمكن التواصل مع المؤسسات التالية:
  • وحدة مكافحة عمل الأطفال في لبنان في وزارة العمل – الخط الساخن 1740 / 009611540114
  • منظّمة إنقاذ الطفولة Save the Children- الخط الساخن 01281865
  • اليونيسف – بيروت: 009611607400 / طرابلس: 009616410723 / زحلة: 009618810381
  • جمعية حماية – بيروت وجبل لبنان: 341496400961 / البقاع: 7180288300961 / الشمال: 7930041000961 / الجنوب: 7645075300961.