بين سطور الحب من طرف واحد.. ألم ونشوة!
أكتوبر 5, 2023
A-
A+
“هل تساءلت يومًا عن الطريقة التي تقتل بها نفسك دون أن تموت؟ الأمر بسيط؛ أَحِبَّ شخصًا لا يحبّك”. – الأديب الهندي فاراز كازي.
في الحب من طرف واحد انتحار بطيء، ألم ممزوج برغبة في المزيد من المعاناة، تلك التي تقتلنا وتحيينا في آنِ واحد.
ولكن لماذا نختار أن نحب من لا يحبّنا؟ إن الحب غير المتبادل، كغيره من المشاعر، لا يُخلق من العدم، فنحن لا نقابل شخصاً ما ونقرّر أن نسير بكامل إرادتنا نحو متاهة من المشاعر غير المرغوب بها تجاهه. تدفعنا الطبيعة البشريّة إلى بناء علاقات مع من حولنا، منها ما يندرج في خانة الصداقات، ومنها ما يتعدّاها مع الأيّام حتى يصبح حبًّا، قد لا يبادلنا إياه الطرف الآخر.
وبالرغم من أنّ تطوّر الصداقة إلى حب من طرف واحد أمر شائع للغاية، يعيشه مراهقو اليوم بشكل كبير، لا يقتصر الحب غير المتبادل على هذا السبب وحده، إذ غالبًا ما ندخل في علاقة مع شخص آخر، فنضع قلبنا بكامله على طاولته، بينما لا يقدّم هو إلّا جزءًا لا يُذكر منه. في هذه الحالة أيضًا، يؤدّي غياب التكافؤ في المشاعر إلى خلق حالة من الحب غير المتبادل. ولأنّ الإنسان يتمسّك بماضيه ويتعلّق بذكرياته، قد يقع أيّ شخص في دوّامة التعلّق بمن أحبّه سابقًا، أي قد يتمسّك بمشاعره تجاه حبيبه السّابق، بعد أن خسر هذا الأخير كلّ ما في داخله من مشاعر تجاهه.
“هل تساءلت يومًا عن الطريقة التي تقتل بها نفسك دون أن تموت؟ الأمر بسيط؛ أَحِبَّ شخصًا لا يحبّك”. – الأديب الهندي فاراز كازي.
وقد نقع أيضًا في حبّ شخص غير متوفّر عاطفيًّا. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من الأشخاص ذوي نمط التعلّق المتجنّب، غالبًا ما يعانون من رهاب الالتزام بمن يدخلون في علاقة معه. هنا تدخل اللّعبة حيّز الـ”كلّ ما هو ممنوع مرغوب”، فندخل في حرب مع ذاتنا. وصدّقوني، أنا لا أرمي كلمات عن عبث، فلقد خضت شخصيًّا تجربة الحب من طرف واحد. أحببت من لم يحبّني، تعلّقت به أكثر كلّما ابتعد عنّي. أحياه حبّي له، وقتلني! كنت أنتظر منه رسالةً، وإن كانت عن طريق الشفقة، يخبرني بها أنّه يكنّ لي أدنى المشاعر، أنّه يشتاق إليّ ويرغب برؤيتي. طلب منّي الرحيل ولكنّني صممت أذناي وشيء في داخلي أبى أن يبتعد، فاعتبرت حبّه “قضيّة” أناضل من أجلها. وجدت في عمق ألمي نشوةً، ورغبت بالمزيد حتّى أدمنت الشّعور.
يُسقطنا الحب من طرف واحد في فخّ من سيكولوجيا التعلّق. وفي كثير من الأحيان، نشعر بأنّنا ضحيّة أمام من لا يحبّنا، فنتّقن الدور ونحمّل مسؤوليّة كل ما نشعر به لأفعال الآخر، علمًا أنّنا شركاء في جريمة واحدة، إذ نحن نبقى بإرادتنا سجناء مشاعرنا. هنا تبرز بشاعة هذا الشعور باعتباره جزءًا لا يتجزّأ من “العلاقة السامّة” التي يهواها جزء كبير من البشر لما تحمله من إثارة وتحدٍ.
عندما نحب من لا يحبّنا، نتعرّف على جوانب جديدة من ذاتنا، جوانب مظلمة تتعشعش داخلها رغبة بالمزيد من الألم، وكأنّنا نرغب في جلد ذاتنا ومعاقبتها. يقول البعض إنّ التعلّق بشخص لا يبادلنا المشاعر نفسها، ما هو إلّا دليل قاطع على تدنّي احترامنا لذاتنا أو تقديرنا لها، وقد يكونون على حق. ولكن بالنسبة إلينا، انكسارنا مع من نحب أهون من المغادرة والابتعاد عنه، لأنّ رحيلنا يعني الوداع الأخير لما تبقّى من حطامنا، ومع رحيل هذه الأخيرة، نفقد ذاتنا كليًّا.
اسألوا غسّان كنفاني، فهو الذي وقع في شباك الكاتبة السّوريّة غادة السمان، وعشقها حدّ المرض، حتّى كان أصدقاؤه يشفقون عليه تارةً ويسخرون منه تارةً أخرى، بينما لم تكن هي تعره أيّ اهتمام: “اكتبي لي، أرجوكِ”، “اكتبي لي الآن”!. كانت غادة تردّ على كلّ 10 رسائل برسالة تُشفق بها عليه.
تعذّب غسان في مسيرة حبّه غير المتبادل لغادة السمان، تجرّع كأس الذلّ، الألم، والمعاناة، واحدًا تلو الآخر، ولكن من رحم ألمه.. وُلد إبداعه. فإن لم يحب غسان غادة حدّ الجنون، لما كنّا تعرّفنا يومًا على جانبه الإنساني الحسّاس، هو الذي عهدناه مقاومًا لا ينفكّ عن تسخير قلمه في سبيل القضيّة الفلسطينيّة. ذلك العذاب الذي عاشه غسان في حبّه غير المتبادل لغادة، أخرج منه إنسانًا آخر. تلك المعاناة التي سكنت قلبه لفترات طويلة، جعلت منه رجلًا بمشاعر، بأحاسيس، رجلًا يشعر ويتألّم ويتوسّل ويبكي!
أجل، يكسرنا الحب غير المتبادل أحيانًا، ولكنّه من دون أيّ شك، يجرّدنا من كلّ مفاهيمنا السّابقة، فنجلس عراةً أمام مشاعرنا. هنا تبرز جماليّة هذا الشّعور الذي يلتهم كلّ ما في داخلنا، فيسقط حيط الكبرياء الذي نتحصّن وراءه، ونكتشف نقطة ضعف لم نكن نعرفها، واهتمامات جديدة بعيدة كلّ البعد عمّا اعتدنا عليه.
“إنّني أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك”: بين سطور الحب غير المتبادل.. ألم ونشوة، وبين الألم والنشوة خطّ رفيع.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي