رسالة الهزيمة: إلى المعارضة.. إني احتقركم
أبريل 2, 2024
A-
A+
لربما يكون هذا أصعب ما كتبت، وأكثر المقالات التي استغرقت وقتًا وتردّدًا في صياغتها. هذا النص ليس مقالًا تقليديًا ولا رواية، بل هو أقرب إلى رسالة هزيمة مطبوعة على ورق أبيض أكتبها مرغمًا، غاضبًا وأهمّه، مستسلمًا فاقدًا للأمل بعد محاولاتي المتكررة للبحث في كل مكان من حولي عن بعض من الأمل المتبقي هنا وهناك، بعض من الأمل المنسي خلف شجرة، قرب مغيب أو وراء خزانة جدّتي جنب أكياس الخضار المخبأة، لم أجد أي قطرة أو رذاذ أمل يجنبني أن أكتب ما أكتبه.
من يعرفني، وهم ليسوا بكثر، يعرف تماماً ما هو لبنان لي، كيف أتحدث عنه للغرباء، كيف “أبيعه” لكل من ألتقي بهم. من يعرفني يعرف ما هي إجاباتي كلما فاتحني صديق بعزمه الهجرة أو تقديم طلبات العمل للخارج.
في الثامن من تشرين الماضي بعد عمليات السابع من تشرين في غزة، قرر حزب الله إدخال لبنان في المعركة “نصرة” لغزة التي دمرت بالكامل. في الثامن من تشرين تغيّر كل شيء، في الحقيقة لم يتغيّر أي شيء فعلياً، بل هو الغشاء، سقط من أمام نظري فبتّ أرى بوضوح حقيقة الأمور في لبنان اليوم.
ألتفت من حولي، لم أعد أعرف شيئًا، لا الشوارع التي أصبحت مظلمة مخيفة ولا الطرقات المتآكلة ولا بيروت المهجورة الخائفة. لا شيء يشبه لبنان الذي عرفته سابقًا، عرفته أنا، لا أتحدث هنا عن قصص جدتي في “أيام العزّ” بل عن لبنان الذي نشأت فيه وتعلّمت فيه، لبنان هذا، لم يعد. وعندما أدركت حجم الهوّة بين لبنان في عيني ولبنان في الواقع، صدمت واقتنعت بعدها بأن لا شيء ينفع سوى تقبل الهزيمة والاعتراف بأن المعركة انتهت وكارهو لبنان في الداخل والخارج انتصروا وجعلوا البلد يشبههم يتلاءم مع رؤيتهم للمنطقة: متروك، قديم، وغير قابل للحياة الفعلية.
لكن لماذا أخذت معي الحقيقة كل هذا الوقت لرؤيتها، سألت نفسي، هل هو حبي للبلد، نكراني لتحولاته الرجعية، أم أكثر؟
ثم راجعت أحداث الماضي القريب، القريب جدًا: تخرجت من الجامعة عام ٢٠١٩، فور تخرجي، أَبعد لبنان عنه كل الدول الصديقة، وتقرّب من كل من يريد له الشر، صدّر الكبتاغون في الرمان والخضار، براً، وبحراً، وجوّاً.
عصفت الحرائق بلبنان، تلتها بأيام تحركات ١٧ تشرين، ثم الأزمة المالية الضخمة، ثم الانهيار الكارثي، ثم فيروس كورونا الذي وللأمانة طاول كل العالم، لكن طعمه كان مختلفًا هنا، بعدما طالب الشعب السلطة باتخاذ إجراءات صحية صارمة، على عكس ما يحدث في كل دول العالم. بعد كورونا انفجرت بيروت، ودمّرت أسواقها وبيوتها وازداد الانهيار انهيارًا.
ميشال عون دعانا للهجرة، ثم أصبح لبنان بلا رئيس جمهورية كالعادة. ضرب الزلزال سوريا وتركيا، وأرعب اللبنانيين من تردداته وأخبار تكراره، ثم اشتعلت المعارك في المخيمات الفلسطينية على أبواب الصيف. كل هذه الأحداث جزء صغير من الطعنات المدبرة التي أصابت لبنان في فترة ٤ سنوات فقط.
لكنها لم تكن كافية بنظر حزب الله الذي بادر وأطلق أول صاروخ على إسرائيل المدجّجة بالسلاح والمسيّرات والشرّ والغضب والكره فاشعل الجنوب ودمّر قراه، وأوقف أي مبادرة لإنعاش الاقتصاد وعودة بعض السياح.
وها أنا اليوم، ومعي كثير من اللبنانيين، أقضي يومي على “x” أتابع مجريات الأحداث بخوف لم أشعر به من قبل. كل يوم تهدد إسرائيل بدمار أكبر، وبعمليات برية وبحرق أشجار أكثر، وللعلم أصغر شجرة، تفوق إسرائيل عمرًا وقيمةً. أترقّب متى ستندلع الحرب، متى سيقصف المطار، متى ستنقطع الكهرباء نهائيًا، كيف سأحاول أخذ أهلي إلى القرية خوفًا عليهم من القصف والخوف. يوميًا تراودني كوابيس، لا أشارك خوفي مع أحد، فلم يبقَ أحد من أصدقائي هنا، الكل ترك البلد ومن بقيَ، لديه من المشاكل ما يكفيه ويفيض.
في دول الجوار، كالخليج العربي، أو حتى الأردن، يفكر شباب جيلي بكيفية إطلاق الشركات الناشئة، كيفية ريادة الأعمال وتطوير مجال الخدمات والمال. أنا هنا، أنتظر متى يتغير شيء للأفضل لأتفرغ وأطور شركتي الصغيرة التي اخترت أن أقيمها في بيروت، لكن كل شيء دائمًا يندحر نحو الأسوأ، فقط هنا في لبنان.
لديّ من النضج ما يمنعني أن ألوم ح*ب الله، أو إسرائيل على كل هذا. فهما ليسا من هنا ولا قلبهما هنا ولا أجندتهما هنا.
رسالتي صراحة موجهة لكل من اعتبر نفسه معارضة، من أحزاب وكتل وسياسيين. أنا أحتقركم. وأحتقر نفسي لأني لم أحتقركم باكرًا. أنتم من أعطيتمونا جرعات أمل زائفة، مغشوشة. أنتم تدركون أن الأمر قد تم، لكنكم تعدون الناس بالمستحيل لتضخيم تمثيلكم. تجّار الأوهام أخطر من تجار الوطن، تقولون لنا أننا يجب أن نقاوم ونحارب ونتجذر في أرضنا، وأنتم تعيشون في الخارج، مع أسركم، تزورونهم شهريًا، لا تتكلمون معهم في السياسة طبعًا، فهم بعقلية الـ entrepreneurs والـbusiness consultants والـventure capitalists.
بل تنظرون علينا نحن بالصمود والبقاء، لكسب الأصوات، وفي كل مرّة نكسبكم أصواتًا أكثر تقولون إن العدد ليس كافيًا للنهوض بالبلد وإنجاز أي شيء. كأنه سيأتي يوم تحصدون فيه كل أصوات الناس وكل مقاعد المجلس وكل وزارات الحكومة، عندها فقط ستنتشلون لبنان من أزماته إلى الازدهار؟
قولوا لي، متى تنتهي المقاومة؟ من يتنعم بثمارها؟ أي جيل؟ كيف تجرؤون على المجاهرة بعبارة “مقاومة مستمرة”؟ مستمرة لمتى؟ متى تنتصر، متى تُهزم؟ إذا المقصود أن يقاوم جيل جدي وجيل والدي وجيلي وأجيال أولادي، للأبد، حتى نفنى جميعًا، فهذه مذبحة، لا مقاومة. هذه كذبة كبيرة تغشون بها الناس ليصوتوا لكم من جيل إلى جيل.
من سيقاوم بعد؟ انظروا من حولكم، انزلوا قليلًا من فوق إلى بين البيوت، أخرجوا من الفقاعة، لن تجدوا شابًا أو شابة، لن تجدوا أحدًا، البلد أُفرغ، كل العقول انسحبت وبقيتم تكلمون الظلال بضرورة انتخابكم مجددًا بزخم أكبر.
أنا أحتقركم لأنكم ضعفاء، جبناء، جعلتم منا أضحوكة. انتهى كل شيء وأنتم لا تجرؤون بعد على استعمال كلمة فدرالية. احذروا ماذا؟ حتى الفدرالية لم تعد تنفع، فلم يبق أحد “تفدرلون” به معهم. لا شيء ينفع، قولوا للناس الحقيقة ودعوهم يروا الواقع لا الكذب.
إن العالم، والمنطقة تحديدًا سبقتنا بـ 70 عامًا على الأقل في الاستقرار والتطور والبنية التحتية. 70 عامًا إذا بدأنا اليوم بالعمل على الطريق الصحيح، وما أبعدنا عن الطريق الصحيح ونحن منتظرين الحرب والمزيد من الدمار والمآسي.
أنا احتقركم لأنكم أعطيتموني أملاً بأن الأفضل ممكن، أملاً كاذبًا استفقت منه متأخرًا، لكني استفقت ولن أضيع لحظة واحدة من حياتي بعد اليوم عليكم. سأغادر لبنان، أو ما تبقى منه، وأذهب حيث انتقل لبنان، بعقوله ومؤسساته واستقراره، سألحق بأصدقائي، وأراكم في العطل إذا بقي بيتنا هنا يصلح للسكن. لن أشتاق لبيروت لأني سآخذها معي في الحقيبة، هي أيضًا تريد الرحيل هي أيضًا تعبت من الانتظار والعتمة، بيروت صغيرة، يسهل حملها.
وسأحمل آمالي وأحلامي لأزرعها في أرض خصبة تنمو فيها وتكبر. سأحاول إقناع أمي بالرحيل معي، فهي كل من بقي لي، وإذا لم تقتنع، ربما البعد سيقسي قلبي، يجعلني أقل تعلقًا بها وبجدتي. سأتعلم أن أعيش وحدي وأعلم نفسي أن أحب بلد آخر، سأتحمل الحرّ، والغبار، فكل شيء أسهل من تحملكم لوقت أطول. سأفكر بنفسي فقط فصرت أعلم أني أصغر من تغيير أي شيء وأنتم أضعف من صنع أي شيء جيد.
أما للمنتصرين أقول، مباركة عليكم الليرة المنهارة، مبروك عليكم هذا اللبنان المتحلّل. تشبثوا به جيدًا واقضموه أكثر، هذا كل ما تبقى لكم، فأنتم أساسًا لن تجدوا مخرجًا منه لأي مكان لأن لا أحد يريدكم عنده بعدما شاهد العالم نتائج وجودكم فوق أي أرض، أو وتحتها.
قبل وفاة والدي، قال لي مراراً أن أغادر البلد، لم أسمع منه، وعند وفاته لم أرد أن أتركه هنا وأرحل، لكني الآن سأفعل. سامحني على بقائي، سامحيني أمي على رحيلي… وادعي لي بالتوفيق. أراكي في الصيف أو على العيد، لن تشتاقي لي كثيراً فالأعياد هنا جمّة. انتبهي لنفسك إذا قررت البقاء… بشوفك.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي