


رئيسٌ على أطلال الكوميديا السوداء
مايو 7, 2025
A-
A+
نصُّ بضميرٍ ساخر وسؤال فلسفي مزمن: من منح هذا الرجل الميكروفون؟
في العام 2012، جلس شاب نحيل ذو لحية سوداء ولهجة حورانية حادة أمام عدسة مهزوزة الجودة، وأعلن عن قيام “جبهة النصرة لأهل الشام”. اسمه أحمد الشرع، لكنه فضّل أن يُعرف بلقب، “أبو محمد الجولاني”، في محاكاة مصغّرة لأساطير العصور الإسلامية الأولى. كان يحمل الكلاشينكوف بِيَد، والفتوى باليد الأخرى، ويتحدّث عن الخلافة كما يتحدّث فتى في الخامسة عشرة عن حلمه بأن يصبح نجم كرة قدم.
وبعد عقدٍ ونيّف من السقوط الحرّ في الأخلاق والسياسة والذاكرة، عاد الجولاني إلى الواجهة، لكن هذه المرّة بلحيةٍ مشذّبة، وبدلةٍ رسمية، وتقريرٍ اقتصادي على الطاولة. كان المشهد كابوسيًا: الرجل الذي تربّى في مدارس القاعدة يُلقي خطاب التنصيب رئيسًا لسوريا، بعد “سقوط النظام” و”إعادة الهيكلة الوطنية”.
نعم، نحن نعيش في عالمٍ باتت فيه ربطة العنق كفيلةً بمحو ذاكرة الجماهير، وكأن الدماء التي سالت قد تبخّرت بفعل التكييف المركزي في القصر الرئاسي.
من السلفية الجهادية إلى الجغرافيا الرئاسية: حفلة تنكّرية بمقياس دولة
تحوُّل الجولاني ليس سياسيًا، بل استعاريًا، كما يقول الفيلسوف جيجيك. نحن لا نتعامل مع رجل “غيّر أفكاره”، بل مع كائنٍ يبدّل الأقنعة كما يبدّل الخلفيات في مكالمة زووم. لم يتراجع الجولاني عن أفكاره التكفيرية، بل علّقها على شماعة الضرورات المرحلية. في الصباح يتحدث عن “حقوق الإنسان”، وفي المساء يكتب مرسومًا يمنع “الاختلاط في الجامعات”، وبينهما يطمئن على أرباح المعابر الحدودية.
لا شيء في سيرة هذا الرجل يُشبه السياسة، بل كل شيء يُحاكي المسرح. وكأننا نشاهد مسرحية عبثية كتبها بيكيت، لكن أخرجها متحدّث باسم هيئة تحرير الشام. الجولاني لا يحكم سوريا، بل يُقدّم عرضًا مستمرًا: مسرحة شاملة للتناقضات، حيث يُمكن للمجاهد السابق أن يصبح رجل دولة، ويُطلب من الجمهور أن يصفّق له احترامًا لـ”الديمقراطية الجديدة”.
العدمية السياسية: حين يتحوّل الإرهاب إلى دبلوماسية
لو كان نيتشه حيًّا، لربما قال: “لقد ماتت الدولة، وورثها أمير الحرب”. فكيف نفهم أن رجلاً خاض معارك لإقامة الخلافة الإسلامية على أنقاض سوريا، يوقّع الآن على اتفاقية لتحسين قطاع الكهرباء بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي؟ وكيف يمكن لرجلٍ خاض حربًا شعواء ضد “العلمانية”، أن يطالب اليوم بفصل الدين عن الدولة في بيانه الوزاري؟ هذه ليست براغماتية. هذا إنكار وجودي للحقيقة، نوعٌ من النفاق الممنهج الذي لا يُصدّقه حتى صاحبه.
وهنا تكمن السخرية الحقيقية: ليس في أن الجولاني أصبح رئيسًا، بل في أن أحدًا ما، في مكانٍ ما، قرر أن ذلك ممكن. لقد تحوّلت السياسة إلى سوق شعبية، تُعرض فيها الشخصيات كما تُعرض البضائع المستعملة: معادة التدوير، مغسولة، لكنها ذات رائحة باهتة لا يمكن إخفاؤها.
دُميةٌ تلفزيونية تتظاهر بأنها تُمثّل شعبًا
إذا راقبنا ملامح الجولاني في خطاباته الأخيرة، سنلاحظ أن الرجل لا يبتسم، بل “يحاول أن يتذكّر متى عليه أن يبتسم”. لا يتحدث من موقع رجل دولة، بل من موقع شخصٍ تدرب على الإلقاء من مدوّنة صوتية لأحد رجال العلاقات العامة. هو أشبه بمُذيع نشرة جوّية يقرأ توقّعات الأمطار، لكنه ينسى أن خلفه خريطة تحترق.
إنّه لا يقدّم سياسة، بل استعراضاً. كل كلمة محسوبة، وكل حركة مصممة بدقة: نظرة إلى اليمين عندما يذكر “الثوار”، ابتسامة صغيرة عند الحديث عن “الاستقرار”، وتنهيدة مدروسة حين يقول: “لقد دفعنا الثمن جميعًا”. لكن الحقيقة هي أن من دفع الثمن ليس هو، بل الشعب الذي تنقّل بين سجون النظام وبراميل المعارضة، ليجد نفسه في النهاية يُحكم باسم “الثورة”، على يد أكثر رموزها كاريكاتوريةً.
الجولاني ليس استثناءً… بل خلاصة أمّة فقدت ذاكرتها
لنفترض للحظة أن أحمد الشرع لم يكن موجودًا. هل كان يمكن أن يظهر شخصٌ مثله؟ الجواب: نعم. لأن الفراغ الذي خلّفته الحرب السورية لم يُملأ بالأمل، بل بالعدمية. الناس لم يعودوا يثقون بالمنقذين، فاستسلموا للجلادين. لم يعودوا يسألون “من أنت”؟ بل “ماذا ستقدّم لي اليوم”.
وحين تصبح الذاكرة عبئًا، يُصبح المجرم قابلاً لإعادة التدوير. يصبح القاتل مسؤولًا عن المصالحة الوطنية. ويتحوّل فيديو قطع الرؤوس إلى مادة أرشيفية محفوظة في قسم “ما قبل الجمهورية الثانية”.
مهزلةٌ تُروى كأنها ملحمة
إنّ قصة الجولاني ليست مأساة فرد، بل مهزلة جماعية. إنها حكاية كتبها العبث، وأخرجها القمع، وأدّاها الخوف الجماعي من المستقبل. نحن أمام نسخة هجينة من هتلر الصغير، لكن هذه المرة بلغة “الاستقرار” و”المصالحة” و”مشاريع البنية التحتية”.
في النهاية، الجولاني لم ينتصر.
نحن فقط من خسرنا، حين قبلنا أن يتحوّل الدمار إلى نظام، وأن يُكتب التاريخ بيد من لوّثه بالدم.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي