من فرح عمر إلى نوال بري: تداعيات الحروب على حرية الصحافة ورسالتها

أغسطس 9, 2024

A-

A+

في زمن تشتد فيه حدة الصراعات وتتضخم قوة السلاح، تصبح الكلمة الحرة هدفًا، ويغدو الصحفيون جنودًا في معركة الحقائق. لم يعد الأمر مقتصرًا على نقل الحقيقة من ساحات المعارك، بل بات الصحفي نفسه جزءًا من الصراع، حيث تتداخل الانتماءات والولاءات مع الرسالة التي يحملها. من جنوب لبنان، حيث استشهد العديد من الصحافيين وآخرهم فرح عمر، إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث الاعتداء على عدد من المراسلين وطردهم، لا سيما الصحفية نوال بري، نبحث في كيف يمكن للحرب أن تخرق حرية الصحفيين وأن تحوّل الكاميرا من شاهد على الحدث إلى جزء منه.

تتفاقم معاناة الصحفيين في مناطق النزاع، حيث تفرض الحروب والنزاعات المسلحة تحديات جسيمة على حرية الصحافة. تأتي هذه التداعيات ليس فقط بسبب المخاطر الجسدية التي يتعرض لها الصحفيون، بل أيضاً نتيجة التحولات التي تطرأ على دور المؤسسات الإعلامية في تلك السياقات السياسية المنحازة. كما حصل تماماً مع مراسلة تلفزيون MTV الصحفية نوال بري أثناء تواجدها في حارة حريك عشية الغارة الإسرائيلية على الضاحية، حيث تعرضت بري وطاقمها لهجوم مباشر من الذين تجمهروا بعد الغارة، حيث حطموا الكاميرا الخاصة بالفريق وتم طردهم. هذه الحادثة تندرج تحت خانة التعدي على الحريات بشكل عام وعلى حرية الصحافة بشكل خاص، كما تبين مدى عمق الفجوة بين اللبنانيين بسبب السياقات السياسية الإعلامية كجزء من الصراع الإعلامي الذي يشهده لبنان ضمن سلسلة الصراعات السياسية المتفاقمة.

لارا الهاشم، مراسلة تلفزيون LBCI، تروي لمنصة “نقد ميديا” ما حدث معها أثناء تغطيتها الضربة الإسرائيلية على حارة حريك: “بينما كنت ألتقط بعض الفيديوهات لنقل الصورة مباشرة، طُلب مني عدم التصوير عبر الهاتف لأول مرة، لكني تفاجأت بعدها بوجود مجموعة من المصورين، فاعتبرت أن الأمر طبيعي وأن التصوير مسموح في تلك النقطة، فالتقطت الهاتف لأبدأ التصوير، وإذا بأحد الأفراد من خلفي يسحب الهاتف من يدي بطريقة وحشية.” تؤكد الهاشم أن هذا العمل فردي وليس منظمًا من قبل حزب الله الذي كان متعاونًا معنا للقيام بمهامنا كصحفيين. وعليه، تبقى هذه التعديات فردية ولا يمكن مقارنتها باعتداءات الحرب المنظمة. ومع ذلك، فإن هذه الأعمال ليست طبيعية ولا مسموحة، بل مرفوضة ومستنكرة، فلا يحق لأي فرد إسكات صحفي أو منعه من القيام بواجبه تحت أي مسمى وأي عذر يبقى غير مقبول.

تعتبر الهاشم أنه لا مجال للمقارنة بين الاعتداءات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي ضد الصحفيين في جنوب لبنان وبين بعض التعديات التي حصلت في الضاحية الجنوبية من قبل بعض الأفراد أثناء تغطية حدث اغتيال القيادي فؤاد شكر. فالاعتداء الذي يحدث في الجنوب من قبل العدو هو اعتداء وحشي وممنهج ضد صحفيين عُزل يظهرون بزي الصحافة الواضح جدًا للعدو الذي يملك تقنيات عالية تمكّنه من رؤية الصحفي بشكل لا يقبل الشك، وبالتالي الهدف هنا واضح وهو انتهاك لحقوق الإنسان ولحرية الصحافة. بينما ما حدث في الضاحية الجنوبية من تعدٍّ على فريق MTV وعلى الزميلة نوال بري هو حادث فردي، وقد حصل مع عدة وسائل إعلامية أخرى كانت متواجدة هناك أيضًا مثل الجزيرة وتلفزيون الجديد وغيره. للأسف، هنا يدفع الصحفيون ثمن سلوك وسياسة المحطة التي يعملون بها في سبيل نقل الصورة والوقائع، على حد تعبير الهاشم.

“للأسف، عندما يصبح الإعلاميون أو المصورون أو الصحفيون والمؤسسات الإعلامية هم الخبر، فهذا يؤكد في معظم الأحيان وجود انتهاك لحرية الصحافة وحقوق الصحفيين. سواء كان ذلك عن طريق الاعتداء الجسدي الذي يتعرضون له خلال تغطيتهم، أو باستدعائهم أو توقيفهم، أو حتى فصلهم من العمل بطريقة لا تمت للأخلاق المهنية بصلة ولا تراعي القوانين.” بهذه الكلمات تؤكد ألسي مفرج، منسقة تجمع نقابة الصحافة البديلة لمنصة “نقد ميديا”، استنكار النقابة لكل هذه الأعمال التي تنتهك حرية عمل الصحفيين. وتعتبر تحول المؤسسات الإعلامية إلى جزء من الخبر تحولًا غير سليم مهنيًا. وتتابع: “حول ما حدث خلال تغطية الاعتداء الإسرائيلي، فقد رصدنا أكثر من عملية اعتداء على الصحفيين، بعضها تم تصحيحه فيما بعد، والبعض الآخر لم يتم تصحيحه. هذا النوع من الاعتداءات تكرر في أكثر من حادثة مشابهة. لذلك، نحن كنقابة صحافة بديلة نتمنى أولًا من الصحفيين أن تكون بداية تغطية الخبر أو الحدث بطريقة متحفّظة نوعًا ما إلى أن يستوعب الأهالي الحدث ويصبح وجود الصحفي في مكان الحدث أمرًا طبيعيًا.”

تدعو مفرج القوى الأمنية إلى اتخاذ واجباتها تجاه الصحفيين وقوى الأمر الواقع أيضًا، والتي تفرض سيطرتها الكاملة في مناطق نفوذها، وذلك لأن أحد أهم واجبات القوى الأمنية حماية الصحفيين في إطار حرية القيام بعملهم. كما تتحمل قوى الأمر الواقع، أي حزب الله بالتحديد في حارة حريك، مسؤولية تطبيق القول بالفعل حول تعميم ثقافة احترام جميع الآراء، بما في ذلك الآراء الصحفية المخالفة، ضمن صفوف جماهيره. وتضيف: “هناك مسؤولية توعوية كبرى على القوى المسيطرة من الأحزاب تجاه مجتمعاتها حول أهمية احترام الرأي الآخر وأهمية احترام دور الإعلام في نقل الصورة. كما تُعتبر هذه القوى مسؤولة عن عدم استبعاد أو منع أي وسيلة إعلامية من الدخول إلى المناطق التي تقع تحت سيطرتها لتغطية الخبر، لأن هذا الأمر يعتبر إقصاء للآخر ومخالفًا للقانون وغير محق.”

تؤكد الباحثة القانونية والمتخصصة في القانون الدولي العام فاطمة دبوس، في حديث خاص لـ”نقد ميديا”، أن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الصحفيين هي اعتداءات منظمة ومخالفة للقانون الدولي والأعراف الدولية، وترقى إلى مستوى جرائم حرب. وهي جرائم متعمدة من العدو بهدف إسكات صوت وصورة الصحفي الذي يقوم بواجبه في نقل ما يحدث في الميدان بكل تجرد.

تتابع دبوس قائلة: “العدو الإسرائيلي للأسف يتخطى ويتعدى القوانين الدولية التي تعنى بحماية الصحفيين، ولاسيما اتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩ التي تنص على حماية المدنيين ومن ضمنهم الصحفيين في أوقات الحرب. إضافة إلى ذلك، يوجد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٦٣/٦٨ لعام ٢٠١٣، الذي يدين أعمال العنف ضد الصحفيين خلال النزاعات المسلحة، وكذلك قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٢٢/٢٠١٥ الذي صدر بشأن حماية الصحفيين أثناء تغطية النزاعات. علاوة على ذلك، تعمل منظمة اليونسكو على تعزيز خطة الأمم المتحدة لعام ٢٠١٢ والتي تتضمن سلامة الصحفيين، وأيضًا قرار مجلس الأمن رقم ١٧٣٨/٢٠٠٦ الذي يدين الهجمات ضد الصحفيين في حالات النزاع. هذه القوانين والقرارات جميعها تدين أي جهة تهاجم الصحفيين، وتضمن للمؤسسات الإعلامية والدولة اللبنانية حق ملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية عن جرائمها ضد الصحفيين اللبنانيين في الجنوب.

أما ما حدث مؤخرًا في الضاحية الجنوبية مع طاقم عدد من الوسائل الإعلامية، فالأمر مختلف. حيث كان الاعتداء من قبل أفراد بلحظة غضب وانفعال، وهو بالطبع لا يبرر أفعالهم التي تظل مدرجة تحت خانة الاعتداء بجرم العنف والتهديد والإيذاء. وعليه، يكفل القانون اللبناني حق تلك المؤسسات والصحفيين بملاحقة من اعتدوا عليهم. لذلك يجب التفريق بين هذه الحوادث الفردية والاعتداءات المنظمة التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد الصحفيين .

منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، استشهد ثلاثة صحفيين لبنانيين أثناء تغطيتهم للصراع في جنوب لبنان، أولهم عصام عبد الله، وآخرهم لغاية كتابة هذا التقرير فرح عمر وزميلها المصور الصحفي ربيع المعماري بتاريخ ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٣، نتيجة قصف إسرائيلي استهدفهم أثناء تغطيتهم الإعلامية في بلدة دير كيفا الجنوبية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الهجمات أثارت تنديدات واسعة النطاق، حيث اعتبرت عدة منظمات حقوقية أن الهجمات كانت متعمدة وتهدف إلى استهداف الصحفيين بشكل مباشر. فرح عمر كانت جزءًا من مقاومة الصورة للاحتلال كزملائها في غزة، وكانت على دراية تامة بأنها معرضة للخطر. وعلى الرغم من أن القانون الدولي يكفل حق وحماية الصحفيين أثناء تغطية الحروب، إلا أن الاحتلال، الذي يتجاوز كل خطوط القوانين الدولية في ممارساته الإجرامية، لم يمنع فرح من الإصرار على تغطية المعركة كجزء أساسي من مهنتها.

تقول مفرج عن موضوع تأثير النزاعات والحروب على حرية الصحافة: “مما لا شك فيه أن الحروب والنزاعات لها تأثير كبير على حرية الصحافة، كما يحدث الآن في غزة، من عدم قدرة الصحفيين الأجانب على الدخول إلى القطاع للتغطية، والحذر الشديد للصحفيين جنوبًا. علاوة على ارتفاع عدد شهداء الصحافة بين غزة وجنوب لبنان حتى تجاوز ١٠٠ إلى ١٥٠ شهيدًا. إضافة إلى ذلك، هناك تضييق على حرية تنقل الصحفيين والإعلاميين داخل المناطق المعرضة للنزاع بسبب الأوضاع الأمنية، حيث إمكانية تعرضهم للخطر شأنهم شأن أي مواطن آخر ضمن مناطق النزاعات، وربما يكون الخطر على الصحفيين أكبر من الخطر على المدنيين حيث يمكن أن يكون الصحفي هدفًا بحد ذاته للاحتلال. إضافة إلى إشكالية إعطاء الأحداثيات للعدو عن طريق النقل الإعلامي بطريقة غير مقصودة. كل هذه الأمور تؤثر بشكل ملحوظ على حرية الإعلام وحرية الصحافة، لذلك يجب علينا العمل للتقليل من هذه التأثيرات بأقل الأضرار الممكنة على حرية عمل مهنة الصحافة.”