مسار الانتحار الاستراتيجي
ديسمبر 18, 2024
A-
A+
لم يكن من المتوقع أن يصل حزب الله يومًا إلى حد التضحية بكل ما بناه، وقد كلفه ذلك آلاف المقاتلين من الشباب اللبنانيين، ومليارات الدولارات، وتراجع العلاقة والثقة مع الداخل والخارج، وانقلاب الرأي العام اللبناني والعربي عليه.
كانت كل المؤشرات تدل على أن حزب الله، ورغم العقيدة الدينية وترويجه لمنطق “السلاح إلى الأبد”، وعدم التراجع والولاء لخامنئي وجمهوريته الإسلامية، يتبع دائمًا، وإلى حد بعيد، واقعية وحكمة سياسية كان من المفترض أن تحميه من الانتحار على يد أقوى دولة إقليميًا، المدعومة من أقوى دولة عالميًا. وقد ظهرت واقعية الحزب على مدى أربعين عامًا، حيث فاوض واتفق مع إسرائيل خلال محطات عدة منذ ما قبل انسحابها في العام 2000، كما تعاطى مع مختلف الملفات الداخلية والخارجية عبر فصلها عن بعضها، والأخذ بعين الاعتبار حدود قدراته خلال مراحل مختلفة.
فكيف لم يدرك قادة حزب الله وحكماؤه أن مضايقة إسرائيل في مرحلة تعتبرها الأخيرة وجودية ومصيرية في تاريخها، سيجعل منهم ومن آلتهم العسكرية هدفًا للمجتمع الدولي الداعم لإسرائيل؟ وذلك قبل أن يصبح حزب الله فعلًا قوة قادرة على الصمود بوجه مخطط كهذا، مثلما كان يطمح منذ تأسيسه وحتى الأمس القريب. هذا الطموح أصبح اليوم مستحيل المنال، خاصة أن الحزب بات يدرك أن التحضير لمواجهة إسرائيل يحتاج إلى قدرات أكبر مما اعتقد بكثير، ولن يحصل عليها قبل انتقال القدرات الإسرائيلية إلى مستوى أعلى من التطور، كما تشير بوضوح الأحداث الأخيرة.
تمثلت استراتيجية الجمهورية الإسلامية لتصبح دولة إقليمية نافذة بصناعتها لجماعات مسلحة قادرة على إزعاج “الشيطانين الأكبر والأصغر” وحلفائهما في المنطقة، كي تضع “سلاح” هذه الجماعات في النهاية على طاولة المفاوضات، وتحصل في المقابل على تنازلات دولية تثبت نفوذ إيران في دول عربية عدة منها لبنان.
لذا وضع المحور الإيراني احتمالين أمام المسار الذي اتخذه: إما الوصول إلى الصفقة الإيرانية الكبرى مقابل “إبعاد الخطر العسكري” لأذرعها في المنطقة عن إسرائيل، وليس على حساب هذه الأذرع كما يُشاع. وكانت تظهر بعض الإشارات لهذه الصفقة كالسماح لإيران ببيع جزء من نفطها وترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أما الاحتمال الثاني فكان السقوط في أتون حرب كبرى مع إسرائيل، حيث كان المحور يتجهز عبر توحيد الساحات وعمليات تسليح واسعة بالصواريخ الدقيقة والنوعية والطائرات المسيّرة.
في مقابل تحضير إيران لاتفاق نهائي مع الغرب، كان هناك أطراف وشخصيات عدة في المحور تؤيد خيار “الحرب الكبرى”، وخاصة حماس التي وجدت نفسها خارج المعادلات، إذ إن لإسرائيل مشاريع لا تتناسب مع وجود لا حماس ولا الفلسطينيين في غزة. لكن معظم الشخصيات المؤيدة لخيار المواجهة مع إسرائيل أصبحوا جميعًا شهداء على طريق القدس، من القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني، إلى الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، بالإضافة إلى شخصيات لبنانية في حزب الله يُقال إن السيد صفي الدين كان من بينها.
غيّرت إسرائيل هذا المسار، فلم تقبل لا بالصفقة الكبرى، ولا بالحرب الكبرى، ولم تقبل أن تدفع ثمنًا سياسيًا مقابل ما يمكنها حلّه عسكريًا. وكانت ردّة فعلها على “طوفان الأقصى” مفاجأة لم تكن بالحسبان بالنسبة لمحور الممانعة.
فقد نفّذت حماس هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر لعل أن تؤدي هذه العملية، وكذلك ردة فعل إسرائيل عليها، إلى تحرك إقليمي وعالمي لصالح الدولة الفلسطينية، تخرج بها حماس منتصرة سياسيًا. تفاجأ الجميع بسياسة إسرائيلية جديدة أكثر تطرّفًا وحزمًا هذه المرة، غير مبالية بالرأي العام العالمي. وكانت جاهزة لتقديم جميع التضحيات الاقتصادية والبشرية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية المطلوبة.
والأهم من ذلك، تفاجأ العالم بخطة إسرائيلية محكمة ومحضّرة سابقًا، فصلت الساحات وانقضّت على جماعات المحور الواحدة تلو الأخرى، من فلسطين إلى لبنان والآن في سوريا، ولا ندري إلى أي مدى يستطيع نتنياهو الوصول، ما قد يريح إسرائيل نهائيًا لسنوات أو عقود قادمة.
دخل لبنان الصراع تدريجيًا مع انخراط “جماعات” في حزب الله في الحرب بعد طوفان الأقصى. حيث يذكر الجميع أن السيد نصرالله لم يطل إعلاميًا إلا بعد شهرٍ من 8 تشرين، ما سميّ في ذلك الوقت بـ”الصمت الاستراتيجي” بهدف الدعاية، لكن كان في الواقع عدم قدرة الحزب على اتخاذ قرار دخول المعركة بسبب الرفض الإيراني، إلى حين خروج الأمين العام ليعلن عما سماها “معركة إشغال” دعمًا لفلسطين وغزة وحماس، لكن بضوابط إيرانية سميت “قواعد الاشتباك”، ظنّوا أنها قد تحمي الحزب وتؤازر حماس ولو رمزيًا.
لكنّ الجنون والإجرام الإسرائيليين بدآ بالظهور مع تدمير المباني والمستشفيات والملاجئ والمدارس على رؤوس الأطفال والمدنيين، وإلى جانبهم مقاتلو حماس. وبدأت علامات التوتر تظهر مع مرور الأشهر وانحسار وجود الحركة في بقع محددة، وتوعُّد نتنياهو للحزب بأنه سيدفع الثمن بعد انتهاء المعركة الأساسية في غزة.
هذا التوعُّد تُرجم مع عملية أجهزة الاتصالات، التي لم تأخذ حقها إعلاميًا بسبب عملية مزلزلة لحقتها بأسبوع، وهي عملية اغتيال السيد نصرالله، ثمّ الاغتيالات الأخرى والغارات والتدمير والدخول البري وصولًا إلى الاتفاق الأخير. مع انتهاء الحرب على جبهة لبنان، توعّد نتنياهو الأسد بأنه يلعب بالنار، فبدأت بعد أيام معارك شرسة شمال سوريا بين الفصائل المسلحة والجيش السوري المدعوم روسيًا.
لا ندري ما الذي تخفيه الأيام والأسابيع للمنطقة، فتارةً ينفّذ نتنياهو توعّداته، وتارةً يستخدمها كضغط سياسي خلال تفاوضات واتفاقيات يبدو أنها ستؤمّن حدود إسرائيل إلى مستوى لم تصل إليه في تاريخها. كل ذلك يحصل وسط دعم أمريكي لامحدود لإسرائيل، وصمت روسي وصيني وعالمي.
والأكيد أنه بات على المرشد إما أن يصنع قنبلة نووية ربما تحميه، أو أن يساوم على ما اكتسبه على مر السنين على أراضٍ وحساب الدول والشعوب العربية، دفاعًا عن مشروع الإمبراطورية الفارسية.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي