يوم تحولنا وبيروت ضحايا القُنبلة: بانتظار العدالة
أغسطس 4, 2023
A-
A+
أُسدل الستار الأسود ورُفعت رايات الحداد على سطوح بيروت وفوق جثامين الشهداء الذين أريقت وأزهقت دماءهم معلنة مرور 3 سنوات على فاجعة أقل ما يمكن وصفها بتفجير أحرق قلب لبنان وعاصمته بيروت ورمت أطناناً من اليأس والقنوط والخوف على معظم اللبنانيين وهي كانت مخيّمة أصلا على بلادهم منذ شهور، وكان شطر كبير منهم يتجرعونها متذمرين من دخولهم المتدرج، اليومي والبطيء، في نفق مظلم.
دقائق قليلة كانت كفيلة في الرابع من آب عام 2020 في أن تهز العاصمة اللبنانية، وصولاً إلى جزيرة قبرص على بعد 200 كيلو متر، بمشاهد مروّعة لا تحدث إلا في الأفلام بعد تفجير في العنبر رقم 12 في المرفأ حيث كان يتم فيه تخزين نحو 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم لسنوات من دون إجراءات وقائية، ليتبيّن لاحقاً أن المسؤولين كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكناً.
4 آب 2020، يستذكر لبنان هذا اليوم بأبشع صوره وأكثرها مأساوية ولا يزال مرفأ بيروت حتى يومنا يحمل تشوهه تماماً كجروح الأهالي التي لم تُشفَ، ليعيد إحياء ما قد جاهدنا على مضى الأعوام الثلاث السابقة نسيانه. قد يكون النسيان من طبيعة حياة البشر ومقدرتهم على استمرارهم العيش في نهر الزمن الذي لا يكف عن الجريان، حسب الروائي ميلان كونديرا. فمن دون النسيان تتحول الحياة جحيماً أبدياً خالداً، وفق الروائي نفسه. ولكن كيف لأمهات مكلومات أن ينسين فلذات أكبداهن؟ وكيف لشعب شهد قيامة وطنه نصب عينيه أن ينسى؟ هذه الذكريات كادت أن تقتلنا لا بل قتلتنا وما وجدنا المفر منها، فنراها تلاحقنا اينما رحلنا آبيةً أن تغادر شاطئ الذكريات. كلها ذكريات تولد حزناً وحريقاً في القلب والروح، فان خمدت نيران المرفأ، نيران قلوبنا المفجوعة لم تُخمد وصوت آهاتنا المدوية لم تلقى آذاناً صاغية.
تروي إحدى المواطنات مأساوية المشهد في زياراتها اليومية في أرجاء بيروت، تستمع إلى قصص الناس المبكية والضرر المعنوي والمادي الذي خلفه الانفجار. عائلات ما اضطرت يوماً إلى طلب المساعدة، باتت اليوم تعيش على الإعانات. أطفالٌ فقدوا الشعور بالأمان في أحيائهم وموطنهم الذي لطالما كان بيئتهم الحاضنة والآمنة.
ومنذ تفجير مرفأ بيروت وحتى اليوم هاجر عشرات ألوف من تلك الأجيال. وانضم لبنان إلى قائمة بلدان الهجرة السرية أو غير الشرعية في “قوارب الموت” في البحر المتوسط.
وصف البعض تفجير 4 آب بانفجار نظام المحاصصة والفساد، فيواصل لبنان تقاعسه عن الوفاء بالتزاماته الحقوقية في محاسبة مفتعلي تفجير مرفأ بيروت، بعد أشهر من المماطلة وغياب الإرادة السياسية وشكاوى عدّة. فيما دعاوى رد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ونقل الدعوى من أمامه لا تزال عالقة أمام المحاكم بسبب عدم اكتمال الهيئة العامة لمحكمة التمييز للبت فيها، وذلك بسبب عدم توقيع وزير المالية يوسف خليل لمرسوم تعيين رؤساء محاكم التمييز التي تتألف منها الهيئة العامة للمحكمة.
وقبل نحو شهر من الذكرى السنوية الثالثة لتفجير مرفأ بيروت، قال عضو القيادة السابق في “تيار المستقبل”، والنائب السابق في البرلمان اللبناني، الدكتور الطبيب مصطفى علوش في مقابلة تلفزيونية: الأزمة السياسية والاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ “ثورة” 17 تشرين الأول 2019- أي إفلاس ماليته العامة وانهياره الاقتصادي، قبل تفجير المرفأ وشغور منصب رئاسة الجمهورية منذ 31 تشرين الأول 2022، واعتبار الحكومة المستقيلة قانونياً ودستورياً حكومة تصريف أعمال- لا يمكن حلّها “إلا بتسوية مع حزب الله”. قول علوش هذا مصدره عقلانية قانطة ويائسة. وعِماد هذه التسمية تنازل المطالبين اللبنانيين عن مطالبتهم بأي تحقيق محلي أو دولي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وتركها في ذمة التاريخ، شأن جريمة اغتيال الحريري التي كشفتها المحكمة الدولية.
وآخر وصمة عار للدولة اللبنانية، فكانت كف يدها عن إعانة المتضررين من تفجير مرفأ بيروت، إذ تلقت مجموعة كبيرة من متضرري التفجير منذ نحو أسبوعين، رسالة على هواتفهم المحمولة، لإبلاغهم بأن الاستمارة التي عرضوا فيها تفاصيل حالتهم المعيشية رغبة منهم بالاستفادة من برنامج شبكة أمان الاجتماعي الهادف إلى مساعدة الحالات الصعبة خلال هذه الأزمة الاقتصادية قد رفضت لأنهم غير مؤهلين للاستفادة من هذه المساعدة. وبحسب أهالي ضحايا تفجير المرفأ والمنكوبين والمتضررين، الرسالة لم تصل إلى حالات معينة فقط، بل طالت شريحة كبيرة من الأشخاص المعوقين، ومن المتضررين من تفجير المرفأ الذين يعانون منذ حوالي 3 سنوات من إصابات دائمة في أجسادهم جراء هذا التفجير.
نسي اللبنانيون اليوم، بعد 3 سنوات مريرة على الانفجار الكبير، أن تحقيقات قضائية في الجريمة حصلت أو قد تحصل. ولم يعد أحد يتذكر تلك التحقيقات إلا من باب التندّر والسخرية المرّة والعبث، في أثناء الكلام على الجهاز القضائي اللبناني الخاوي، والمقيد بولاءاته المزمنة، إما خوفا من أولياء الأمر والنهي في الدولة المنحلة والمتهاوية، وإما طاعة لأولياء نعمته من طغاة الزعماء السياسيين. قد ظلت الحقيقة مطمورة مع ضحايا ابتلع البحر أشلاءهم، وما زالت مباعث الوجع تلكز القلوب كلما مر اللبنانيون بجانب المرفأ أو بمحاذاة تمثال المغترب اللبناني أو بموازاة مركز إطفائية بيروت، هذه الأمكنة تعيد إلى ذاكرتهم صوراً جمعت نفسها بنفسها ولم تلتئم في الوجدان، أما عن قوة التخطي فهي لن تتحقق إلا من خلال جلاء الحقيقة وتبريد القلوب.
كلمات مختنقة، دوّنها عابرون وعابرات على جدران مهملة مهجورة. وهي مثلهم عابرة في يوميات بيروت والبلاد. وكأن هذه الكلمات دُوّنت وتُدون في لحظات صحوة مفاجئة تركت علاماتها على الجدران، لتشير إلى الغموض والقطيعة. كلمات قدرية، لا تخاطب أحدا ولا تطلب شيئا. بل تعترف وتشهد وتسأل وتتذمر أو تستغيث بخفوت من حال اليأس والقنوط.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي