


يوغا الرّجل الأسمر
مارس 2, 2025
A-
A+
بدأت سلسة نوبات قلقي عندما لم أسمع شيء.
كنت في غرفتي في طرابلس، أتنّقل بين منشور وآخر على هاتفي، حين وصلني فيديو انفجار بيروت الكبير. أذكر أنّني لم أرد أن أصدّق ما حدث، فأنا لم أسمع شيئًا. لكنني، لم أنم يومها.
بدأت في اليوم التّالي محاولاتي لمَنطَقة الواقع، فغرقت في قراءة الأخبار والتّحاليل السّياسية. لكن، ولغياب المبحوث عنه في المبحوث فيه، وجدت عوضًا عن ذلك بين الأخبار نوبات القلق. “نوبة قلق” مصطلح “فانتازيّ”، تظنّها تحدث لغيرك فقط، فتنسبها إلى الخيال. لذلك، عندما تصيبك، ترفضها، فتظلّ تهاجمك حتّى تعترف بوجودها، تمًامًا كالصهاينة.
اعتزلت عندها متابعة الأخبار، متذرعة بجمل ك”صحتي النّفسية أهمّ من كلّ شيء” أو ك”يجب أن أبتعد عن المقلّقات”. ساعدتني المصطلحات اليوتوبية تلك، في بلادي الدّيستوبية، على تجاهل وتخدير الألم. فتوقفت نوبات قلقي… مؤقتًا… إلى أن اشتدت الحرب الأخيرة في لبنان مع الكيان الصّهيوني.
في ٢٠ أيلول ٢٠٢٤، فيديوهات غارة كبيرة في حارة حريك وصلت إلى هواتفنا.
كان أصدقاء دراستي يسكنون الضّاحية الجنوبية، إذ درست الصّيدلة في الجامعة اللبنانية. اتصلت بأول صديق للتأكد من سلامته، لكنه لم يجب. فانتابني البكاء متخيلة أفظع الاحتمالات وبدأ جسمي يرتجف. اتصلت به مرة أخرى فأجاب واطمأن قلبي. لكنني بكيت كثيرًا يوم الجمعة ذلك، يوم اغتيل إبراهيم عقيل، رغم أنني لم أسمع أيّ شيء أيضًا.
ذهبت يوم الاثنين إلى العمل، لكنني لم أعمل، بل بقيت أتنقل بين التّطبيقات بانتظار أخبار أيّ انفجار أو اغتيال جديد، تمامًا كما قضيت نهاية الأسبوع السّابق. هي محاولة للشعور بالتحكم بأوضاع لا قوة لي عليها.
اكتشفت يوم الثّلاثاء أنّ محاولاتي فاشلة، إذ لم تزدني المعلومات اطمئنانًا، بل العكس، وأنّ عليّ أن أطور طريقتي. فقررت التّطوع في مدارس اللاجئين من المناطق المستهدفة إلى طرابلس. كان لي تأثير على حياة من أساعدهم وبالتّالي على الأحوال، لذلك، كانت هذه المحاولة لتكون أنجح من سابقتها في مجال “التّحكم” بواقعي، لو لم تكن أفشل من سابقتها فيما يتعلق بمشاعري. فالمشاعر بحاجة للاهتمام والانتباه، وأنا، بتطوعي الّذي كان يناهز ستّ عشرة ساعة في اليوم، تجاهلتها. وعند التّجاهل تصبح المشاعر كالطفل الجائع الّذي كلما أهملته أكثر صرخ بصوت أعلى وصار أعنف. ففقدت في شهري العنف كلّ الوعي العاطفي الّذي اكتسبته خلال جلسات العلاج النّفسي، واليوغا، والتّأمل. فنظريات الرّجل الأبيض تسقط في عوالم الرّجل الأسمر. عدت لأكون تلك الطّفلة الصّغيرة القلقة الّتي تبحث عن الأمان.
لم أسمع أيّ انفجار أو أيّ جدار صوتيّ في هذين الشّهرين الّذين قضيتهما في الملاجئ، ولم تعد أيّ من نوبات قلقي خلالهما. لكن، وفي ليلة رأس السّنة، بعد ما يقارب شهر ونصف من “إعلان وقف إطلاق النّار”، عادت، بلا انذار. صارت تنفجر واحدة تلو الأخرة لمدة شهرين وكأنها تحاكي الغارات الّتي أُغِيرت بها بلدي، من ثم أخذت شكل نوبات بكاء يومي رافقتني يوميًا.
نوبات قلقي تأخرت مقارنة بأول تجربة لي معها. فخلال هطول القّذائف، لجأت حواسي للانشغال في مساعدة غيرها متجاهلة نفسها. وعندما وجدت متسعًا من الأمان للانكباب، فعلت ذلك. فالقلق الّذي تجاهلته لم يتلاشَ، بل اختبئ ليظهر فجأة، وبشكال أبشع.
إن تجاربي النّفسية مع الوطن عيّنة من تجارب أكثر وأفظع، لأناس يرفضون العيش خارج بلادهم. فيتعلقون به تعلقًا طفوليًا ويتأملون بعد كلّ قذيفة، وكلّ حرب، أن تسكت البنادق وتتكلم السّكينة، فيقدّمون ال”الخير قادم” مع البقلاوة في الأفراح. و “الخير قادم” جملة يوتوبيّة غير واقعيّة، تمامًا كجملي. هي تنبثق من الأماني والأحلام، فهي غير مبنية على أيّ دليل ملموس، وتكتم رغبة عدم تكرار وضع سابق، حتّى لو لم يعشه الفرد، حتّى لو لم يسمع شيء.
ففعليًّا، الدّماغ البشريّ غير قادر على مَفهمة أنّ الصّور الّتي نشاهدها على هواتفنا بعيدة. فيهَيَّأ له أنّ الأحداث الأليمة تقع على مقربة منه، وأنّ المأساة الّتي يشاهدها بين يديه يمكن أن تصير مأساته، وبالتّالي هو بخطر وبحاجة للتأهّب. فيشغّل نظام الكرّ والفرّ الجسدي، الّذي يجعل الجسم في حالة توتر دائم تهيّئه للنجاة في أيّ لحظة. إضافة إلى ذلك، تعزز القشرة الجبهية الأمامية – القسم المسؤولة عن الوعي والإدراك في الدماغ- هذا الشعور، إن كان مكان الأحداث المؤلمة مألوفًا له. ومع الوقت يتطوّر التّوتّر هذا إلى قلق دائم وثم يتحول إلى الخوف مزمن.
الخوف… الخوف هو الحقيقة المستمرة هنا. نقوم برميه في العليّة مع بقيّة “كراكيبنا” اليوميّة، فإما نلاحظه كلّ عقد، عندما نقرر ترتيب الفوضى، أو فجأة، عندما تنهار تلك العليّة بكلّ فوضاها لتضخّم الخوف وازدياد ثقله.
هو الخوف، الخوف من الألم.
فإضافة إلى صعوبة تخيل الدّماغ بُعد الأحداث عنه، هو يمتلك خلايا عصبيّة مرآتيّة. هذه الخلايا أساسيّة في التّعاطف، والإحساس بالألم العاطفيّ. إذ إنها تحاكي في أدمغتنا الآلام الّتي يشعر أو يمكن أن يشعر بها الآخر، فتصبح آلامه آلامنا ونعيش ما يعيشه كما لو أنّ ما يمرّ به نمرّ به. أضف إلى ذلك أنّ عمل هذه الخلايا يقوى إن تشاركنا هوية معينة (وطنية، سياسية، جغرافية، تاريخية، لغوية، عقائدية، الجسدية، جينية…) مع المتألم. فتزداد المشاهد الوحشية وحشيةً ويزداد خوفنا وألمنا بالمشاهدة.
والألم والخوف إجمالًا من ضروريات الحياة، فمحاولة الهرب المستمرة منهما من أسس الاستمرار. فنتعلّق بحياتنا ونخاف أن نخسرها، ونتألم عندما نجرح، لأن ذلك الجرح يذكرنا بالموت، فنكافح في سبيل الصّحة للبقاء. نخاف أن نخسر الأمان العاطفيّ الّذي يقدمه لنا أحبابنا، ونتألم إن تشاجرنا، فنكافح من أجلهم. نخاف أن نخسر بيوتنا وأماننا السّكني، ونتألم إن احتل وطننا أو هوجم، فنكافح من أجل كرامته.
فلولا الألم ما كافحنا، ولا قاومنا، ولا قاتلنا، ولا استشهدنا، ولا كان عندنا قضايا نناضل في سبيلها، ولا ناضلنا سبيل التّحرّر والتّحرير. الألم يثبّت الوجود، وكان من نعم الحياة، حتّى كبّلنا عند اتحاده والخوف المزمن. فانتقلت إيجابية الألم إلى السّلبية، وزاوجت الثنائيّ والأمل العشوائيّ. إنّ هذا التّزاوج السّام يلدّ التّعطش للأمان الّذي يدفع المرء إلى الاختيارات اللاعقلانية.
وفي المجتمع اللبنانيّ، ينتشر أسلوب التّربية الاستبداديّ. فمعظم الأهل يربّون أولادهم على أسس وقواعد حازمة لا تكسر، وعلى عقوبات صارمة، وانعدام المجال للتفاوض أو لإعطاء الرّأي: السّلطة على حقّ دائمًا. يَسقل هذا الأسلوب عقل الإنسان على التّبعية العمياء لمصدر السّلطة -الّذي كان الأبوين في الصّغر. كما ينتج راشدين لا يحسنون النّقد، والتّفكير، وأخذ قرارات ومواقف شخصيّة، راشدين لا يعرفون الأمان إلا بالاستبداد الّذي ألفوه في طفولتهم. فيلجؤون لشخصية أبوية جديدة تماثل السّلطة القديمة.
هكذا تنشأ الزّعامات. تنشأ على الارتباط الشّبكي للألم والخوف، وتزاوجهما مع الأمل العشوائي، الّذي يلد التّعطش للأمان المتجسد بالإيمان اللاعقلانيّ العاطفيّ بالمنقذ الاستبداديّ، وما يسرده من أوهام، ذلك المنقذ الّذي، تمامًا كالآباء، لا يمكن أن يخطئ ولا أن يساءل إن فعل.
هكذا نشأت في الحرب الأهلية بتعلق النّاس بالزّعماء الّذين يماثلونهم دينيًّا وبالتّالي يشبهون أهلهم.
وهكذا نشأ حزب الله ونشأت ألوهيّة زعمائه.
نشأ معتمدًا على خوف النّاس وآلامهم وتعلّقهم بالجنوب، على الوعود بحفظ كرامة الطّائفة، وتأميل النّاس بنصر مماثل كالّذي حققه في أيار ال٢٠٠۰، ذلك “النّصر” الّذي لم يحقق بعده إلا دمارًا للبلاد، وإرهابًا ونهبًا، بدأً من اغتيالات سنة ال٢٠٠٥ مرورًا بحرب تموز، والسّابع من أيار، والفراغات السّياسيّة، والأزمات الاقتصاديّة، وانفجار المرفأ، والحرب الإسناديّة، وصولًا إلى انهياراتي العصبيّة، وانهيارات غيري النّفسيّة والحياتيّة. هكذا نشأ واستمر الحزب معتمدًا على خوف ناسه وآلامهم وخوف “الآخرين” منه ومن بطشه وسلاحه.
ففي حين سلمت “كلّ” الأحزاب أسلحتها بعد اتفاق الطائف، رفض الحزب ذلك، لا بل عمد مع مرور السّنين إلى مضاعفة ترسانته الحربية متزعمًا بالدفاع عن الجنوب وتحرير فلسطين. غير أن سرديتاه بقيت سرديات حرب أهلية، وطريقه إلى القدس مرت بوسط بيروت وعلى أرواح الأطفال الأبرياء.
اليوم، وبعد عشرين سنة من الإرهاب الدّاخلي، وبعد حرب اسناد وعدت ولم تفِ بالدّمار الخارجي، انهارت شبكة الخوف وأصبحت إدانة غسل الأدمغة الشيعي المعتمد على التلاعب بالعاطفة الدينيّة، والتنديد بأهوال السّلاح الداخليّ الخارجيّ، وضرورة التّخلص منه، ممكنًا. فاليوم، وإن كان هناك انتصار وحيد استحصله لبنان من حربه الأخيرة، فهو اسقاط الخوف من السّلاح الواهي، ورفع أقلام الاستنكار أمام بنادق الحزب النّقيّة.
جلست، منذ أيام، قرب البحر ودموع ما بعد نوبات القلق تشوش رؤيتي. وإذ بالنبيّ الواصل من أورفليس يربت على كتفي ويقول:
“يا ابنتي، مارسي يوغا الرجل الأسمر”.
ففعلت.
ولم أبكِ بعدها.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي