الفرح حق مقدّس: لبنان بين مظاهر الحياة وظلال الموت
ديسمبر 26, 2023
A-
A+
يُطلّ العيد خجولًا هذا العام، يحمل في طيّاته نسمات أمل خفيفة تواسي اللّبنانيّين الغارقين تحت وطأة وضع اقتصاديّ مزرٍ وحرب على الأبواب.
بين الأمس واليوم، انقلب الحال رأسًا على عقب. كنّا أطفالًا ننتظر العيد على أحرّ من الجمر، فكبرنا وصفعنا واقع هذا البلد الذي كبرت همومه معنا، حتّى هرم باكرًا.
في هذا الوقت من العام، تعود بنا الذاكرة إلى أيّامنا الذهبيّة “لمّا كانت الدني بألف خير” أو على الأقل، كانت كذلك في أعيننا البريئة. كنّا براعم صغار يخونهم صبرهم قبل الميلاد، فننتظره وكأنّه يوم الميعاد، لنخرج إلى شوارع بيروت وجبيل وغيرها التي تضجّ بصخب الحياة، كي نشاهد زينتها الاستثنائيّة ونعيش أجواء الفرح التي يهواها كلّ طفل في العالم.
لم نكن على دراية بما يحصل حولنا، ربّما لم تكن حال البلد مثاليّة، ولكنّها على الأقل لم يكن كارثيّة كما هي اليوم. لطالما كان شهر كانون الأوّل (ديسمبر) الشّهر المُنتظر، شهر “العطلة المدرسيّة الطويلة” والنزهات العائليّة التي لا زلنا نذكرها حتّى اللّحظة. اليوم، تبدّلت الأحوال، فأصبح كلّ يوم كما الآخر، وانطفأت بهجة العيد التي كانت تُشعل جوارح الطفولة البريئة داخلنا.
على الرغم من أنّ ساحات لبنان، وخاصّة في شماله وعاصمته، مزيّنة بألوان الأعياد، ومن أنّ زحمة المارّة والزوّار خانقة في معظم الأسواق، إلّا أنّ نسبة قليلة منهم تستطيع أن تستمتع فعلًا بالأجواء، إذ أنّ أعباء الحياة اليوميّة والوضع الأمني في لبنان، تكاد لا تُفارق بالهم. حتّى الأطفال، الذين يستمتعون عادةً بأبسط حُلل العيد، لا يستطيعون عيش أجواء فرَحِه كاملةً، لأنّ متطلّباتهم البسيطة أصبحت بالنسبة لكثيرين، كماليّات يعجزون عن تأمينها.
بطبيعة الحال، تتغيّر ظروف الحياة من عام إلى آخر، فإذا ألقينا نظرة على الماضي البعيد، نرى الفرق بوضوح. يروي لنا أجدادنا قصص ومغامرات الميلاد ورأس السّنة خلال أيّام شبابهم، أيّ في سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، قبل حوالى الـ50 عامًا، عندما لم تكُن بيروت بأفضل أحوالها، لكنّ أهلها كانوا كذلك، موحّدين بغض النّظر عن الظروف والأوقات والمناطق والأديان، قبل أن تلتهمهم الطائفيّة العمياء والحقد الذي خلّفته الأحزاب السياسيّة بينهم.
كان للعيد حينها طعم مميّز، يتلذّذ به اللّبنانيّون بغض النظر عن أديانهم وأوضاعهم المعيشيّة، لأنّ نكهته الخاصّة تكمن في احتفالاتهم البسيطة مع بعضهم البعض، رغم الاختلافات بينهم. تستذكر جدّة مسنّة أيّامها في شوارع “برج حمود”، حيث كانت نتنظر العيد، على الرغم من أنّها مسلمة، لتحتفل به مع أصدقائها المسيحيّين في المنطقة، حيث كانوا يدعونها وعائلتها للعشاء في منزلهم البسيط الدافئ، على نغمات وتراتيل العيد. “كنّا نستقبل هذا العيد بشغف، لما يحمله من أجواء استثنائيّة ومن مأكولات كنّا ننتظرها العام بأكمله ومن هدايا تُفرح قلوبنا جميعًا”.
قصّة هذه المسنّة، قد سمعها معظمنا على ألسنة جدّاتنا وأجدادنا، الذين يتحسّرون على “الماضي الجميل” رغم الظروف السّائدة حينها. اليوم، معظمهم لا يكترثون لأمر العيد، فيمرّ مرور الكرام أمامهم.
بالطبع لم يفقد العيد بهجته الكاملة، وهو لا يزال بالنسبة لفئة كبيرة يومًا ليس كغيره من الأيّام، سواءً لأهميّته الدينيّة أو المعنويّة، ولكنّه من دون أيّ شكّ، لم يعُد كما كان في الأيّام الخوالي.
وكأنّ ظروف الحياة، من معيشة إلى اقتصاد إلى أمن، لا تكفي اللّبنانيّين، حتّى تنتشر على مواقع التواصل كافّة حملات تُدين مظاهر الفرح والحياة المحدودة في عدّة مناطق لبنانيّة، نظرًا لما يحدث جنوبًا. إنّ الحرب الدائرة في الجنوب، الذي كان ولا يزال جزءًا لا يتجزّأ، بل وجزءًا مهمًّا من تاريخ لبنان وحضارته، مأساة حقيقيّة يعيشها جميع المواطنين، لأنّ الجنوب أرض لبنانيّة، ولأنّ أهلها يستحقّون الحياة كما غيرهم. ولكن، ألا يحقّ لمن يعاني تحت وطاة أصعب الظروف، أن يحاول ولو لبضعة أيّام فقط، أن ينعم بفرحة عيد بسيطة؟ أينبغي على الجميع أن يستسلم أمام الحزن ويرخي عزيمته، ملقيًا رغبته في الصّمود جانبًا؟ متى أصبحت ثقافة الحياة جريمة؟
الفرح حقٌّ مقدّس للجميع، ولو كان منقوصًا نظرًا للأوضاع الراهنة. اللّبنانيّون يبحثون عن نفحة أمل وحبّ وسلام تحت أنقاض المآسي والحزن والحروب، وهو ما يميّزهم عن غيرهم من شعوب العالم. نحن شعب يحب الحياة، يبحث عنها داخل رحم الألم.
أجل، كان من شأن الأيّام أن تبدّل نكهات العيد عامًا بعد عام. أجل، لم تعُد الحياة كما كانت في سابق عهدها. ولكن كلا، لم ولن نخضع لثقافة الموت والحزن والألم، وسنقاتل في سبيل الحياة لأنّها أقلّ ما نستحق.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي