الدفاع المدنيّ، جنودٌ بالبدلة الحمراء

نوفمبر 7, 2024

A-

A+

في ليالٍ يطول ظلامها، وساعاتٍ تمتدّ كأنها الدّهر، يعيش اللّبنانيون في بعلبك وبلدات أخرى تجربة مريرة بين الركام، حيث الأنقاض لا تكتفي بابتلاع البيوت، بل تخنق معها أحلامًا وأرواحًا تترقّب بصيص نجاة. وفي تلك اللّحظات الثقيلة، يقف الدفاع المدني متجذّرًا في أرضه، يعمل بأجسادٍ أنهكها التعب وبأدواتٍ لا تقوى على مواجهة الأهوال. يمضون على جبهات الإنقاذ من دون معدّات حديثة أو عتاد كافٍ، مؤمنين برسالة أسمى من حدود الإمكانات.

إنّهم جنود باللّحم الحي، يمدّون أياديهم بين الحجارة، يواجهون الأخطار بقلوب ثابتة وإصرارٍ لا ينطفئ، في مشهدٍ يروي مأساة وطن أنهكته الأزمات وجعلته ينتظر العون كمن ينتظر المعجزة. هذا الواقع المؤلم يختصر معاناة بلدٍ يكابد بلا كلل، في مواجهة غياب الدّعم والإهمال الذي فاق كل تصوّر، وكأنهم يحاربون القدر بقلوبهم وأملٍ لا ينكسر.

خلال القصف الإسرائيلي، يواجه المواطنون في بعلبك خطر البقاء عالقين تحت الأنقاض لساعات طويلة، نتيجة النقص في معدّات الإنقاذ. ورغم الجهود المبذولة من فرق الطوارئ، إلا أن توفّر جرّافة واحدة فقط لانتشال المصابين يزيد من صعوبة عمليّات الإغاثة ويبطئ من إنقاذ العالقين. نستعرض هذا الواقع المؤلم معكم من خلال الحقائق التي يطرحها رئيس اتّحاد بلديّات بعلبك شفيق شحادة.

تحت وطأة الاعتداءات… بعلبك تفتقر لمركز طوارئ مجهّز

يقول شحادة، لموقع “نقد” إن الاتّحاد أنشأ مركزاً للطوارئ والتدخل السريع عام 2017، ولكن الأزمة الماليّة حالت دون استكمال تجهيزاته. وبيّن أن موارد الاتحاد، التي كانت تصل إلى 1.2 مليون دولار سنوياً، انخفضت إلى 15,000 دولار فقط، ممّا أعاق تنفيذ المشروع بالكامل. وشدّد على حاجة بعلبك الملحّة لهذا المركز الآن، خاصّةً في ظل تزايد الاعتداءات الإسرائيليّة.

ويشير شحادة إلى أن بعلبك الهرمل تتعرّض لقصف متواصل يسفر عنه عدد كبير من الشهداء والمصابين، مشيراً إلى أن الدفاع المدني يبذل أقصى جهوده، على الرغم من موارده المحدودة، لإطفاء الحرائق ورفع الأنقاض. وذكر أن الهيئة الصحيّة الإسلاميّة تلعب دوراً أساسياً في دعم الدفاع المدني، حيث توفّر فرق إسعاف وسيّارات مجهّزة تعوّض النقص وتساعد في الميدان.

وأوضح شحادة أن البلديّات تفتقر إلى المعدّات اللّازمة، حيث تمتلك بلديّة بعلبك جرّافة واحدة فقط لا تكفي لرفع الأنقاض عن المباني المتضرّرة، ويقتصر استخدامها غالباً على فتح الطرق المغلقة جراء القصف.

وحول دور الدولة، بيّن أن وزارة الأشغال العامة ليس لديها مركز خاص بها في بعلبك، وتعتمد على متعهدين مرتبطين بعقود. إلا أن هؤلاء المتعهدين لم يتمكنوا من تأمين السائقين لآليّاتهم بسبب النزوح، ما يزيد من صعوبة التعامل مع الأوضاع الحاليّة ويجعل الاستجابة للطوارئ أكثر تعقيداً.

وفي ظل تزايد التحديات التي تواجه عمليات الإنقاذ، يبرز الدور الحساس الذي يقوم به عناصر الدفاع المدني. في هذا السياق، يتحدث رئيس شعبة التدريب في الدفاع المدني، نبيل صالحاني، عن الصعوبات الكبيرة التي تواجه الفرق الميدانية خلال عمليات البحث عن المفقودين.

مسار الإنقاذ بين الحاجة لتحديث الآليّات وسرعة الاستجابة

يشير صالحاني في اتصال مع “نقد”، إلى التحدّيات التي تواجه فرق الإنقاذ خلال عمليّات البحث عن المفقودين تحت الأنقاض، موضحاً أن هذه العمليّات تتطلّب وقتًا طويلًا لإزالة الركام والتمكّن من الوصول إلى المصابين، ويؤكّد أن السرعة في العمل قد تؤدّي إلى نتائج كارثيّة، إذ أن التسرّع قد يهدّد حياة الأشخاص المحاصرين تحت الردم. ويعرب صالحاني عن تفهّمه العميق لمشاعر القلق والأمل لدى الأسر التي تنتظر بفارغ الصبر انتشال أحبّائها من تحت الأنقاض.

ويشدّد على ضرورة تحديث وتطوير المعدّات والآليّات المستخدمة في الدّفاع المدني، ليس فقط في منطقة بعلبك، بل في كافّة المناطق اللّبنانية، موضحاً أن الدولة اللّبنانية تبذل جهودًا حثيثة لتلبية الاحتياجات الأساسية، ومشيرًا إلى أن وزير الأشغال والنقل العامة، علي حمية، قد خصّص مبلغًا من الحكومة لإصلاح بعض الآليات. ولكنّه لفت إلى أن هذا المبلغ لا يكفي، وأن هناك حاجة ملحة لمعدّات حديثة ودعم أكبر من المنظمات والهيئات الدوليّة.

ويوضح صالحاني أن فرق الدفاع المدني تتولّى أكثر من 200 مهمّة يوميًّا، ممّا يضاعف من أعبائهم، خصوصًا مع انتشار حرائق الأحراش. كما يشير إلى توقّف أكثر من 20 آليّة إطفاء و10 آليّات إسعاف عن العمل بسبب الأضرار التي لحقت بها جرّاء العدوان الإسرائيليّ، ممّا يزيد من صعوبة تأمين بدائل فعّالة.

واختتم صالحاني حديثه لافتاً إلى معاناة عناصر الدّفاع المدني، الذين يواجهون تحديات صعبة هذه الأيّام، في ظلّ أجواء الحرب والمخاطر المحدّقة، ممّا يعرّضهم للخطر أثناء تأدية واجبهم، خاصّةً في حال تجدّد القصف على نفس المواقع. وأكّد أن المهام الملقاة على عاتقهم تتطلب شجاعة وإقدامًا منقطع النظير، في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن.

كيف يمكن أن تبقى القرى اللبنانية، التي تتعرض يومياً لويلات القصف الإسرائيلي، وحدها في معاناتها دون دعم حقيقي؟ إن الواقع المرير الذي تعيشه هذه المجتمعات يستدعي من الجهات المعنية، من الدولة إلى المنظمات الإنسانية، أن تتحمل مسؤولياتها بجدية وفعالية. إن الأمل في غدٍ أفضل لن يتحقق إلا من خلال إرادة صلبة وإجراءات ملموسة تنقذ الأرواح وتحافظ على كرامة الإنسان. هل سنرى يوماً ما، تجاوباً فعلياً مع هذا النداء الإنساني العاجل، أم ستبقى هذه القرى تصارع الأهوال بمفردها، في صمتٍ يُثقل كاهلها ويجعل أحلامها تتلاشى بين الأنقاض؟