منارة العلم أطفأتها الولاءات السياسية

أغسطس 22, 2024

A-

A+

لا يخفى على أحد أن قطاع التعليم في لبنان، بعد الأزمات المعقدة والمتتالية التي شهدها منذ عام 2019 وحتى الآن، لم يعد كما كان في السابق. فلبنان، الذي كان يوماً ما مركزاً رئيسياً للتعليم والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يعاني الآن من نقص حاد في المعلمين المؤهلين والعلماء المهرة، مما أثر سلباً على قدرة المؤسسات التعليمية على تخريج دفعات جديدة من الطلاب القادرين على حمل رسالة العلم والمعرفة إلى أقاصي العالم، كما كان الحال منذ عقود.

كما لا يخفى على أحد أن العديد من الجامعات اللبنانية قد انغمست في السياسة والعمل الحزبي. فقد أصبح من المعروف أن سقف الحريات في لبنان أعلى من أي مكان آخر في المنطقة العربية، حيث يُسمح للرأي والرأي الآخر بالتعبير عن نفسيهما، سواء كان ذلك من خلال النقاشات في كافيتريا الجامعة، داخل القاعات الدراسية، أو حتى في مناظرات علنية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الأساليب الهمجية والغير ديمقراطية قد وجدت لها موطئ قدم، خاصة خلال فترة الانتخابات الطلابية في مختلف الجامعات والكليات.

إن هجرة الأدمغة هي واحدة من أبرز التحديات التي ضربت القطاع التعليمي، وخصوصاً الأكاديمي، في السنوات الأخيرة. فمن المجحف بحق الأساتذة، لا سيما أساتذة الجامعة اللبنانية، أن تصبح رواتبهم الشهرية ما بين 60 إلى 100 دولار أمريكي فقط. والأسوأ من ذلك، أن جزءاً كبيراً منهم لا يجد بديلاً سوى الاستمرار في مسيرته التعليمية، رغم الصعوبات، نظراً لتكريسه جزءاً كبيراً من حياته لهذه المهنة. ولكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هجرة الأدمغة، بل في “تدجين” تلك العقول وإجبارها على الانصياع والولاء من أجل لقمة العيش. فأصبحنا نرى جامعات تكتسي بلون واحد وتقتصر على منطقة معينة، بينما يتحول طلابها وأساتذتها إلى موالين لطرف واحد، ويُفرض عليهم تقديم فروض الطاعة والولاء لحزب معين.

عادةً ما تكون الجامعات صروحاً تعليمية تجمع أفراد المجتمع من مختلف الطبقات والخلفيات ووجهات النظر، ولكن اليوم أصبحنا نرى مؤسسات تعليمية تتبع سياسة الحزب الواحد، وتهمّش أي فرد لا ينتمي إلى تلك الدائرة، عادةً ما يلجأ الطلاب لتلك الجامعات إما بسبب قربها من مكان سكنه أو بسبب الأقساط المناسبة لوضعه المعيشي. فيفاجأ بإدارة، وأحيانًا بأدواتها، من معلمين وطلاب يضغطون عليه إما لعزله أو “تطفيشه”. أبعد من ذلك، أصبحت تلك المؤسسات توظف أصحاب الولاء الواحد فقط، حيث أصبحت فرص العمل متاحة فقط لمن هو ضمن “بيئتهم”، ومن يسير على نهجهم ويصفق لقراراتهم. أما أنتمم يا أصحاب الكفاءة والخبرة، فالرب يحميكم، وابحثوا عن فرص عمل في مكان آخر.

يقول المثل: “إذا كان رب البيت بالدف ضارباً، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص”. فما بالكم إذا كان رب هذا البيت أستاذاً أكاديمياً “مطبل” لسياسة الحزب الواحد، متقوقعاً على ذاته، رافضاً تماماً الاعتراف بأخطاء حزبه، ورافض لفكرة النقد والمحاورة في جميع اشكالها. رويداً رويداً، بتنا نخرج أجيالاً متقوقعة على نفسها، تضرب بعرض الحائط فكرة تقبل الآخر أو حتى الاستماع إليه. كيف لا، والمكان الوحيد الذي يسمح لفكر شاب في الثامنة عشر من عمره بأن يتكون بعيداً عن بيئته أصبح مراقباً من أعين “الأخ الأكبر”، ولا يسمح بفكرة، ولو كانت شبه ليبرالية، بأن تطأ حرم جامعته.

الجدير بالذكر أن هذه الجامعات ليست مؤسسات دينية، بل على العكس، تقدم نفسها كجامعات بديلة تعطي فرصاً للأشخاص من “البيئات المهمشة” وللأساتذة الشباب الذين يشقون طريقهم في التعليم الأكاديمي. في إحدى تجاربي في هذه الجامعات، وبعد أكثر من ثلاثة فصول تكللت بالنجاح وتلقت ردود فعل إيجابية من الطلاب والإدارة، أُبلغت فجأةً بالاستغناء عن خدماتي. المبرر كان البحث عن أشخاص بمهارات مختلفة. ولكن المضحك المبكي في الأمر أن الإعلان الوظيفي الذي تم نشره على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي كان يتطابق تماماً مع مسيرتي المهنية، بل أبعد من ذلك، تم الطلب مني إرسال سيرتي الذاتية حتى بعد قرار الاستغناء عن خدماتي لمقارنته مع المتقدمين الجدد.

هذا الاستغناء لم يكن من فراغ، بل جاء نتيجة مناقشتي مع الزملاء والإداريين حول عدم اقتناعي بسياسة حزب معين، وأن تاريخه يشبه تاريخ أي حزب ميليشياوي انخرط في الحرب اللبنانية. ولسخرية القدر، أن هذا الحزب اليوم مسؤول، بطريقة أو بأخرى، عن جر لبنان إلى حرب مع إسرائيل، كما كان مسؤولاً عن هجمات روعت جميع اللبنانيين في 7 أيار.

هذا الرأي المخالف أثار حفيظة باقي الزملاء، ومن بينهم عميد الكلية الذي فضل توحيد ألوان كليته بغض النظر عن أن المواد التي تدرس فيها ليست لها علاقة مباشرة بالسياسة، بل بإدارة الأعمال. ولكن، وكما تعلمون، “الاحتياط واجب”، فمن اعتاد على معالجة المشاكل بكواتم الصوت، ليس من الصعب عليه اتخاذ إجراء احترازي بعزل واستبعاد شخص حاول بث روح شبابية محبة للحياة وجديدة في صفوف طلابه.

في ظل الأوضاع الراهنة، يواجه قطاع التعليم في لبنان تحديات كبيرة تهدد بقاءه كمصدر رئيسي للمعرفة والابتكار في المنطقة. إن الجامعات التي كان من المفترض أن تكون حاضنات للفكر الحر والإبداع، أصبحت الآن ساحات للولاء السياسي الضيق، مما يقلل من قدرتها على تأدية دورها الأساسي في بناء جيل قادر على التفكير النقدي والمساهمة في تطوير المجتمع.ط

الخطر الأكبر لا يكمن فقط في فقدان هذه المؤسسات التعليمية لرسالتها الحقيقية، بل في التأثير السلبي الذي ينعكس على الطلاب أنفسهم. هؤلاء الطلاب الذين من المفترض أن يتعلموا كيفية التفكير بحرية والتفاعل مع وجهات نظر مختلفة، يجدون أنفسهم محاصرين في بيئات تفرض عليهم ولاءات معينة وتحد من قدرتهم على استكشاف أفكار جديدة، بل وابعد من ذلك، يفرض أيضًا هذا الولاء على المعلمين الذين من المفترض أن يكوانوا مرشدين لتلك العقول اليافعة، فيختزل ويهمش أي شخص يغرد خارج السرب من أجل المحافظة على اللون الواحد. هذا الوضع يهدد بخلق أجيال منغلقة فكرياً، غير قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية أو المساهمة بفعالية في بناء مجتمع متماسك ومتقدم.

الخوف الحقيقي اليوم هو على الجيل القادم الذي يكبر بدون جامعة وطنية توفر بيئة تعليمية متنوعة وثرية. هذا الجيل مجبر على الالتحاق بجامعات تروج لسياسة اللون الواحد والرأي الواحد، مما يضعف من فرص تنمية التفكير النقدي والتعددية الفكرية. إن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى مزيد من الانعزال والانغلاق الفكري، مما يشكل تهديداً لمستقبل لبنان كبلد كان دائماً يعرف بالتنوع والانفتاح.

إن مستقبل لبنان يعتمد بشكل كبير على نوعية التعليم الذي يتلقاه شبابه اليوم وعلى من يقدمها. من هنا، فإن النضال من أجل جامعة وطنية تحترم التنوع وتحفز على التفكير النقدي والإبداع هو نضال من أجل مستقبل أفضل للبنان. لا يمكن للبنان أن يستعيد مكانته كمنارة للعلم والثقافة في المنطقة إلا إذا استعاد نظامه التعليمي حريته واستقلاليته بعيداً عن التجاذبات السياسية والطائفية.

إن إعادة بناء نظام تعليمي شامل ومتنوع، قائم على الحرية الأكاديمية والاستقلالية الفكرية، هو السبيل الوحيد لضمان أن تظل الجامعات اللبنانية قلاعاً للمعرفة ومنارات للتغيير الإيجابي في المجتمع. هذه الخطوة ليست فقط ضرورية لضمان مستقبل لبنان كدولة حديثة ومتقدمة، بل هي أيضاً السبيل لتحقيق التماسك الوطني والتعايش السلمي بين مختلف مكونات الشعب اللبناني.