أنا أشبّح إذاً أنا موجود

ديسمبر 28, 2024

A-

A+

كان يوماً شتوياً في بداية التسعينيات عندما اصطحبتنا أمي معها أنا وأخي في زيارة من تلك الزيارات العائلية المملة. وبمجرد أن استقلّينا سيارة الأجرة وانطلقت بنا، بدأت أبحث عبر نافذتي عن أي شيء يخفّف عني وطأة الملل. وما كادت تمرّ عدة دقائق حتى تحقق ما أردت عندما ظهرت أمامي فجأةً سيارة بيضاء أخذت تسير بمحاذاتنا على امتداد الشارع. ومن حيث لا أعلم، تخيّلت أننا في سباق معها. وبتحريض طفولي غريب، نظرت إلى الشبان القابعين في تلك السيارة ومددت لهم لساني مستهزئاً بهم، وما هي إلا ثوانٍ بعدها حتى زادوا من سرعتهم وأخذوا يصرخون على سائق سيارة الأجرة يأمرونه بالتوقّف على جانب الطريق فوراً؛ الذي ومن دون حتى أن يستفسر منهم عن السبب، فعل بالضبط كما أمروه.

وما أن توقّفنا حتى نزل واحد منهم واتجه مباشرةً نحو نافذة السائق وقال له بلهجة ساحلية خشنة: “شو ما تسابق؟”، وهوى بيده على خده وصفعه مطيحاً بنظارات السائق الطبية، الذي من هول الصدمة والخوف بالكاد استطاع أن يقول مدافعاً عن نفسه: “لا والله”. لتتدخل لحظتها والدتي، التي لم تكن أفضل حالاً من السائق، وتتدارك الموقف وتقول بلهجتها الدمشقية التي ملأها الخوف: “طول بالك يا أخي، والله مو بقصده”. ليقفل بعدها الشاب الغاضب الباب عائداً إلى رفاقه المنتظرين في سيارتهم، وينتهي عندها الموقف من دون أن يتأزم أكثر.

لحداثة سني، لم أدرك أن أولئك الشبان كانوا عناصراً من أحد أجهزة المخابرات السورية، وأن تلك السيارة البيضاء التي كانوا يستقلونها كانت من طراز بيجو 504 التي لطالما ميّزتهم وأرهبوا بها الناس. لتؤسس بذلك هذه الحادثة تجربتي الأولى مع آلة الرعب التي صنعها حافظ الأسد، وسأدرك فيما بعد أنني كنت يومها أمام واحد من الوجوه العديدة لتلك الآلة التي ستشتهر لاحقاً وتعرف باسم: التشبيح!

مع وراثة بشار الأسد للسلطة والشعب عن أبيه، استفحلت ظاهرة التشبيح وأصبحت تتحوّل تدريجياً إلى أسلوب حياة يتّخذه عدد ليس بقليل من السوريين عن غير وعي ولا إدراك منهم كوسيلة لتسيير حياتهم. ولتصبح معها لغة العنف لغة التواصل الرسمية في المجتمع السوري، وبات مألوفاً لدى الكثيرين من أفراده أن يهدّدوا بعضهم البعض والآخرين بما لديهم من صلات وارتباطات مع نافذين في السلطة. وذلك طبعاً عدا عن انتشار مظاهر التشبيح في الطرقات التي لم تعد حكراً على منتسبي أجهزة المخابرات التي حكمت سوريا طوال 54 سنة مع ما رافقها من مظاهر كمسدس بارز على الخصر أو الدوريات المؤلّفة من سيارات فرنسية الصنع كما جرت العادة حتى تسعينيات القرن الماضي، بل تعداه فيما بعد وتطوّر لدرجة أصبح من المألوف معها رؤية مدنيين محسوبين على النظام متشّحين بالسواد مطلقين اللحى يتجوّلون بسيارات رباعية الدفع سوداء اللون غالباً، ألصقوا عليها صوراً لآل الأسد مذيّلة بعبارات الإجلال والتأليه.

ليصبح بالتالي الإرهاب البصري وسيلة ردع أولية سخّرها الشبيحة لتهديد وإخافة غيرهم ممّن لم تسعفهم الحياة بمعرفة أشخاص نافذين في السلطة تحميهم وتقدّم لهم الدعم داخل دوائر الدولة وخارجها، ليلجأ الميسور منهم إلى دفع المال لهؤلاء الشبيحة لقاء الاستفادة من خدماتهم ليتحوّل بدوره بشكل أو بآخر إلى جزء من منظومة التشبيح تلك التي رسّخها النظام السابق.

لا شك بأن الكثير من رواسب عصر الإرهاب والتشبيح ستبقى عالقة لمدة طويلة في اللاوعي لدى شريحة عريضة من الشعب السوري وكذلك لدى فئات محدّدة من الشعب اللبناني ممن كانت تتقاطع مصالحهم مع مصالح النظام السوري الذي انتهى وانتهت معه أحلامهم ومشاريعهم. وسيستغرق الأمر من الدولة السورية الوليدة وقتاً ليس بقصير وجهداً كبيراً لإعادة بناء الإنسان السوري على أسس من قيم العدالة والمساواة والاحترام المتبادل، وترسيخ فكرة أن القانون فوق الجميع وأنه لن يسعف أحد بعد الآن ما يمتلكه من مال أو ما كان لديه من معارف وواسطات.

فيما يخصّ سائق التاكسي الذي كان وقتها على ما أعتقد شاباً في أواخر العشرينيات، أتمنى منه أن يسامح ذاك الطفل ابن الثمانية أعوام، وأن يكون اليوم معنا فرحاً كحال الملايين منا بفناء دولة الاستبداد وبداية عصر جديد في حياة دولة العدالة السورية.