الجري في اللاشيء

مايو 8, 2025

A-

A+

أستفيق بعيون مبلولة وبالبعض القليل من القوة التي أستنزفها للقيام من مرقدي، فأخلو من الطاقة. أجلس عندها على حافة السرير لعشر دقائق، أعدد فيها لنفسي أنّ عليّ ارتداء ملابسي، وأنّ عليّ الذهاب إلى العمل، وأنّ عليّ ممارسة الرياضة، وأنّ عليّ لقاء صديق أو اثنين، وأنّ عليّ حضور تلك المناسبة وذلك الحفل، وأن عليّ وعليّ وعليّ… وأن عليّ المسؤوليات كثيرة لم أذكرها بعد وأنّ عليّ لقب راشدة وما يَحمله وما يُحمله، وأن عليّ إخفاء البكاء الساذج الناتج عن اللاشيء المعطل في حياتي. تنجح الـ”عليّات” الكثيرة في ذم نفسي، لأن لا وقت لتلكؤها المشاعريّ، وتحملني على البدء بالجري بارتداء ملابس نظيفة أنيقة، ورش عطر اشتريته في لحظات حاجة للدوبامين، ووضع بعض مساحيق تجميل تخفي حزن الليلة السابقة، والليالي الأسبق منها.

في السيارة، أصل الهاتف بالمذياع لأسمع “بودكاستات” تشجع على الاندفاع وجمع الأموال بالـ”كريبتو” والتقاعد العشريني وأنا ثلاثينية تألمني مفاصلي عند الصعود. تؤكد تلك الأصوات، أصوات مدربي الحياة الأصغر مني سنًا، أن نمطي الحياتي سليم لا بل الأمثل. فيطمئنونني أن انشغالي بكلّ شيء ولا شيء وجريي المرضيّ الدائم الذي يهدف إلى تجنب النظر إلى مشاعري صحيّ. فأنطلق إلى العمل مستعدة لملء يومي بالتشتيتات الفارغة.

أصل إلى مكان عملي وفي يدي كوب شاي أخضر يذيب السعرات الحراريّة الناتجة عن أكلي العاطفي المفرط المتكرر، وعلى وجهي ابتسامة صباح خير تخبّئ نفوري من حياتي. وأُمضي بقيّة يومي بين ضحك ومزاح، فلا أحد يريد سماع “شكاء وبكاء” إنتاجاتي المفرطة وحياتي المثالية الناجحة أو تذمر من اللاشيء المعطل في حياتي. وفي لحظة صمت بين مهمة ومهمة، أتساءل… لما لست سعيدة كغيري من الناس مع أنهم يحسدونني على حياتي – كما تقول أمي. أنا لست عرقفسعيدة على الرغم من وجود سقف رماديّ فوق رأسي وطعام رماديّ في صحني وأصحاب وأقارب رماديين يحبونني حولي، وعلى الرغم من انشغالي كلّ دقيقة بأنشطة مهمة رمادية.

لما لا شيء يعجبني؟

ما عدت أعرفني. أنا أفقد ما كان يميزني، أفقد ما كان يلونني. وأحيانًا، بين ورقة عمل رمادية والورقة ألحظ ومض هيكلي القديم الضاحك بألوان كثيرة،فأشتاق إليه. أنا لم أعده. أنا رمادية الآن. أنا محض ظلّ من أنا القديمة تلك، ظلّ ضعيف يختفي مع خفُوت الضوء يومًا بعد يوم. أنا أخسر نفسي في جريّ اكتآب عاليّ الأداء، كما سمعته في يوم معالجة نفسية لم تنجح إلا في التسمية. كلّ يوم أبعد أكثر عن الأنا الذي كنتها فأغرق على الرغم من رغبتي في النجاة. أنزل إلى قاع أدنو منه منذ شهور من دون الوصول. أغرق، ولا أشعر بالماء حولي، ولا أسمع الأصوات حولي ولا أرى ألوان كوني. فالأزرق طبعًا… رماديّ.

أمضي في يومي محاولة استرجاع أشلاء هيكلي القديم ذلك، فألتقي بصديق، أجلس معه لأشرب قهوتي التي أظنها كانت مفضلتي، فنتكلم بالنجاحات التي أنشرها على الشاشات الملونة محاولة استنشاق بعض من رائحة السعادة من خلال التعليقات والإعجابات. يقول لي: يسعدني “إنك عايشة حياتك”. أنا طبعًا أعيش حياتي – كما يقول – في الجريّ اللامتوقف من الموت في داخلي، من موت أنا السابقة. فجلوسي معه ليس إلا محاولة للملمة أشلاء تلك الأنا الزرقاء، والحمراء، والخضراء، والصفراء عن الأرض. أجمعها في يديّ محاولة وضعها في مكانها السابق، فتتحول بخارًا يطير من بين أصابعي ليصبح غيمًا يمطر عليّ الماء الرمادي الذي أغرق فيه. فأعود إلى منزلي تحت العاصفة تلك في وسط اللاشيء المثاليّ الذي أصبح حاضري. أدخله. أغلق الباب خلفي وأقف.

أقف وأبقى واقفة، واقفة في سكون اللاشيء الرماديّ، واقفة أبكي ذكرى حبيب ومنزل، أبكي هيكل أحببت وأصبحت بغيابه كالعاري الأعزل. وأزحف فيما تبقى من نهاري محاولة الخروج من الجريّ من كآبتي، فأطالع صفحات النصائح على الإنترنت التي تدلّك على طريقة التوقف. فأشرب ليترين من الماء يوميًا وآكل أكلًا صحيًا، وأمارس الرياضة يوميًّا، وأكالم أصدقائي دوريًا، وأحضر النشاطات الاجتماعية، وأرى المعالج أسبوعيًا، لكنني أجري أكثر وأكثرجأ، فلا شيء ينفعني، ولا شيء يعجبني، فأجري أكثر وأكثر.

وفي المساء عندما أكون وحدي، وعندما يحاول لجمي لنفسي الدخول عليّ، أخدر مشاعري بدولبة المسلسلات. فتمرّ ساعات حتى تتعدى منتصف الليل، فإن لم تتعد تعدت الدموع حدود عيوني هروبًا من أفكاري القاسية. أبقى في حالة التخدير الفكري هذه جريًا من كرهي لنفسي، حتى تلتصق جفوني ببعضهم ويضعف جسدي على النعاس، فأضع خدي على وسادتي وأحضن دبي الثلاثينيِّ وأنام لأستيقظ وأعيش يومًا آخر رمادي.

إنني أجري باستمرار واقفة فوق الأطلال في دوامات رمادية لا أعرف الخروج منها.