من شارع الحمرا: لاتيه وجدل وبشّار الأسد
ديسمبر 7, 2024
A-
A+
خواطر عمر سمّاك – صحافي وكاتب من بيروت
أشرب القهوة كلّ ليلةٍ تقريباً مع أصدقاءٍ لي في شارع الحمرا، ومرّات في بليسّ.
“لست من روّاد الحمرا الأصليين”، هكذا يقولون أصدقائي عنّي. هنا أتكلم طبعاً عن الفكر والسياسة. لكنّ طبيعة عملي جعلت لي صداقات من هنا وهناك لا يمكن حصرها بمقاهي مار مخايل وبعض حانات بدارو.’
تُعجبنا “عجقة” النّاس في الحمرا ولو خفتت عن السنوات الماضية، وزمامير السيّارات. أظنّ أن هذه ميزة اللبنانيّ، يتأقلم مع غير المعتاد، مجبراً، ثمّ يعتاد على الأمر ويُحبّه.
أطلب كعادتي “لاتّيه”، لا أحبّ الدّراما، ولا الكريما. ولست ممّن يتذوّق كلّ ليلةٍ مشروباً جديداً، وفيّ لللاتيه، ويُعجبني، حتّى لو اعتبره الكثيرون بعيد كلّ البعد عن القهوة، لكنني أعتبره قهوة، هكذا أنا.
نناقش كلّ ليلةٍ مواضيع حادّة ومختلفة، من دون سابق تخطيط ولا نتفق على شيء.
يرمي أحدنا كلمته ويقع النّقاش، تحتد المواقف، ترتفع الأصوات، ترتجف أطرافنا، ويتطاير اللعاب من فم صديقي المتحمّس، وآخر يخبط على الطاولة عند ذكر روسيا ويرمي “المنفضة”، وتنتهي السّهرة.
هكذا كلّ ليلة، من كلّ يوم.
لكنّ المثير في الأمر أنه برغم اختلافنا نتفق على أمرٍ واحد. أو شخص واحد.
شيء غليظٌ يجمعنا، يقرّبنا من بعضنا البعض ويجعلنا نتبنّى الرأي ذاته وهذا من النادر أن يحصل، بل من المستحيل.
نتفّق جميهاً على أنّ بشار الأسد مجرم. وسفّاح، وجميعنا نتمنّى نهايةً عادلةً له. حديث بشّار ليس حديثاً “بيّاعاً” ضمن “شلّة” أصدقائي، فلا خلاف فيه، ولا غبار عليه. وحديثه لا يمشي معنا، لأني اكتشفت إننا نحب النقاش المجنون. يزعجنا، ويغضبنا لكننا نحبه. لذا نغيّر الموضوع، لنصنع الحماس من جديد.
ثمّ تعود السّهرة إلى وتيرتها المعتادة. نحاول أن نجد موضوعاً آخر يقودنا إلى ذلك النوع من الجدل الذي يجعل الجدران من حولنا وكأنها تُنصت. نتحمّس، نصطدم، نتراجع، ونعود. كل منا يأتي بمشهد صغير من حياته اليومية، بموقف شاهده أو فكرة راودته، لنصبغ الليل بألوان جديدة من الحوار.
أحدهم يتحدث عن أزمة الكهرباء، وآخر عن فيلم شاهده مؤخراً، ونصل دوماً إلى نقطةٍ غريبة لم نتوقعها: ما الذي يجعلنا نستمر في العودة إلى هذه الطاولة، إلى هذا الشارع؟ قد تكون الحمرا نفسها هي الجواب، بروحها التي تتنفس الصخب والهدوء في الوقت نفسه.
لكن، وربما دون أن نصرّح بذلك، ما يجمعنا فعلاً هو شعور دفين بأننا نحتاج لبعضنا البعض. وسط هذه الفوضى، هناك راحة غريبة في أن تجد نفسك مختلفاً ولكن غير وحيد. أن تعرف أن هناك من سيحاول دائماً أن يقنعك بأنك مخطئ، فقط لتعيد التفكير، وربما لتجد نفسك، ولو للحظة، ترى الأمور من زاوية جديدة.
ثم ينتهي الليل، نُنهض الكراسي، ندفع الفواتير، ونتعاهد دون كلمات أننا سنعود غداً. لأن الحمرا، واللاتيه، والأصوات المرتفعة على الطاولة، هي ما تبقّى لنا من حياة لا زالت تحاول أن تكون.