حزب الله و”جنود الرب” في خندق واحد: لبنان على تماس مع التوتاليتاريّة
أغسطس 25, 2023
A-
A+
تتكرّر مشاهد شريعة الغاب في لبنان بشكل دوري، من استفزازات حزب الله الأمنيّة وحمل لواء رهاب المثليّة[1][2] وكل شخص مختلف، الى “صراع المايوه” الصيداوي، فاعتداء عصبة[3] “جنود الرب” على ملهى ليلي بحجة تسويقه لـ”الشذوذ[4] الجنسيّ”. وعلى رغم الاختلاف السياسي الظاهر، ترقص قوى التطرف هذه – بالعمق – على نغمات تشابه أسباب نشوئها واستراتيجيّة التعبئة والنزعة القمعيّة المتّبعة.
ولوضع الأحداث في نصابها الصحيح، لا بد أوّلاً من البحث عن أسباب ارتفاع منسوب التطرّف لدى أغلب مكوّنات المجتمع اللّبناني، وكيف تبلورت هذه النزعة الراديكاليّة الى تيّارات. قد نجد الإجابة بالمدرسة الواقعية البنيويّة[5] في العلاقات الدوليّة. وتميّز هذه المدرسة الفكريّة الساحة الدوليّة عن الداخليّة بأنّ الأولى تحكمها حالة الأناركيّة -أي الفوضى نظراً لغياب السلطة-، فيما الثانية يحكمها نظام هرميّ. ومن نتائج الأناركيّة، إثارة شعور ضرورة تعزيز الأمن الذاتي للدولة بهدف الحفاظ على وجودها، بغض النظر عن طبيعة نظامها (ديمقراطي أو استبدادي أو أيديولوجي…) لأن الضغط/التهديد نفسه واقع على جميع الدول. وبالتالي يدخل العالم بما عرّفه “John Herz” بـ”معضلة الأمن”[6][7] أي أن أي تدبير يهدف لتعزيز أمن دولة ما، يؤدي لإضعاف الدول الأخرى.
ماذا لو حكمت حالة الأناركيّة في الداخل؟ إذ يمكن اعتبار لبنان في ما يشبه الأناركيّة اجتماعيّاً وأمنيّاً مع انحلال الدولة فيه نتيجة للانهيار المالي و”سلبطة” السلاح غير الشرعي. وتولّد حالة غياب الدولة (وبالتّالي غياب “الضامن الأمني” المؤسّساتي[8][9] للمجتمع الداخلي) هذه، شعور مُلِحّ بضرورة تعزيز الأمن الذاتي للمكوّنات الاجتماعيّة[10] بهدف الحفاظ على وجودها. وهذا الشعور بـ”الخطر الداهم”[11] تتقاسمه كافة المكوّنات المجتمعيّة / الطوائف سواسية إذا طبّقنا نظريّة الواقعية البنيوية على الحالة اللّبنانيّة… أي أنّ محاولة “شيطنة” مذهب معيّن كأهل السنّة في لبنان، وهو ما حاول تسويقه حزب الله دون مرّة[12]، خاطئة. وما يزيد طين التطرّف بلّة، أنّ الدولة المركزيّة أصبحت، بنظر أغلبيّة الشعب اللّبناني، وسيلة لهيمنة مذهب معيّن –جزء من المذهب الشيعيّ الممثّل بحركة أمل وحزب الله (تحالف الثنائي الشيعي)- على بقيّة الطوائف بطريقة غير مباشرة (كما كانت سابقاً للطوائف الأخرى)، وهو ما يتعارض مع طبيعة النظام اللّبناني، فيما يفرض شكلاً من أشكال الحكم الذاتي في مناطق نفوذه بحكم الأمر الواقع وفائض القوّة بينما يخوّن كل من يطالب بنظام حكم لامركزي شرعيّ. ومن أبرز تجليّات فدراليّة الأمر الواقع هذه، منع ارتداء النساء لملابس السباحة (حادثة عربصاليم على سبيل المثال لا الحصر) ومنع بيع الكحول بالقرى حيث يُحكم حزب الله تسلّطه.
إذاً، سبق الاعتداء المدان على النساء اللواتي ارتدين ملابس السباحة على شاطئ صيدا من قبل بعض أهل المدينة المتشدّدين، منعهنّ من الولوج إلى بعض الأنهار جنوباً إلّا بشروط “الحزب” الدينيّة. وسبق اعتداءات “جنود الرب” على مجتمع الميم-عين المدانة تحريضات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله و”جوقته”. أبعد من ذلك، فإن استعراض حزب الله لفائض قوّته في فترة ما بعد الانهيار المالي في لبنان[13] وغيرها من الأحداث المستفزّة مثل “غزوة عين الرمانة”[14]، والاستعراض العسكري والمناورات الحيّة بمحاذاة معلم مليتا في ذكرى التحرير[15]، فحادثة “كوع الكحالة”[16]، كفيلة برمي الزيت على نار المخاوف الناتجة عن الأناركيّة وإطلاق عنان “معضلة الأمن” السابق شرحها.
يرافق شعور الخطر الوجودي حالة من العجز لدى فئات المجتمع “المستضعفة”. بدءً بالتضعضع السياسي الحاصل على الساحة السنّيّة نتيجة لانكفاء تيّار المستقبل عقب اعتزال زعيمه سعد الحريري الحياة السياسيّة[17]، بحيث لا يتخطى نفوذ الفعاليّات السنّيّة الممثّلة في المجلس النيابي إطار المنطقة المنتخب عنها. أمّا على الساحة المسيحيّة، ومع تعطيل حزب الله للاستحقاق الرئاسي[18] الحالي كما سابقاتها، بظل انعدام المبادرة من قبل الكتل النيابيّة ذات الأغلبيّة المسيحيّة والموقف السيادي مكتفية بسياسة ردّة الفعل، عجزها عن تلبيّة وعودها رغم حصولها على كتلة وازنة نيابيّاً[19]، وابتعادها عن رفع شعارات ومشاريع ذات بعد استراتيجي تحاكي الوجدان المسيحي. كلها عوامل تساهم بتعزيز فكرة عجز “السياسة التقليديّة” وأحزابها بمقاربة “الخطر الوجودي”، ما يفتح الباب واسعاً للاستغلال من قبل مموّلين أو عقائديّين والذين غالباً ما يصوّبون سهامهم نحو الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة من مثل ذوي المستوى التعليمي المنخفض، الوضع المادي الصعب، المراهقون، شباب “متمرسة” بالخروج عن القانون… ومن المفارقات الكبرى، أنّ حزب الله نفسه نشأ على سرديّة الاستضعاف الشيعي ونما ولا يزال على ممارسة الترهيب والترغيب.
ولا تقف أوجه الشبه بين هذه الحالات في فلك التطرف على التشابه في أسباب نشوئها واستراتيجيّة التعبئة، إذ تتقاسم النهج التوتاليتاري. فالنظام[20] التوتاليتاري يقدم نفسه كجسم اجتماعي موحّد، ولضمان هذه الوحدة، يحتاج إلى خلق أعداء لمشروعه الأيديولوجي. وتميّز “Hannah Arendt” الأنظمة التوتاليتاريّة عن غيرها بالرغبة في “الهيمنة الإرهابيّة” ليس فقط على المجتمع، بل أيضاً على كل فرد. وبهذه المقاربة، جمعت “Arendt” تحت سقف التوتاليتاريّة النازيّة والستالينيّة رغم الاختلافات العقائديّة الجوهريّة بينهما ممهّدة لمقاربتنا بين توتاليتاريّي لبنان. وتتشارك الأنظمة التوتاليرتاريّة المنطق الاحتكاري لـ”الحقيقة” من خلال “تمثيل شامل للعالم التاريخي، للحاضر والمستقبل، لما هو وما يجب أن يكون”[21]. وتتخطّى التوتاليتاريّة الشق النظري الى المنحى التطبيقي إذ ترغب بتحوّل عامّة المجتمع وفقاً لل”Weltanschauung”[22] خاصّتها. وترتكز هذه الأنظمة، وفقاً لـ”Raymond Aron”، على معادلة الإيمان والرعب لضمان إحكامها.[23] والبعد الديني يظهر جليّاً في تسمية حزب الله و”جنود الرب”. أما الرعب المُعمَّم، فهو ما يسعيان إليه بشتّى الطرق العنفيّة والاعتداءات وصولاً الى الاغتيالات (حزب الله).
بالعودة للمدرسة الواقعيّة، يصف “Kenneth Waltz” حالة الأناركيّة على أنّها حرب “نائمة” ويوضح أنّ الحروب تقع لأنّ ما من شيء يمنعها[24]. فرقصة التانغو بين انحلال الدولة وهيمنة حزب الله إذاً، “هو الخطر الحقيقي والداهم” على لبنان واللبنانيّين، كل اللّبنانيّين. ولا تشكّل مظاهر التطرّف هذه إلّا قمّة جبل من جليد التلكّؤ في المواجهة الفعليّة.
[1] كلمة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الليلة الخامسة من ليالي محرم للعام 1445 هجري 22-07-2023
https://video.moqawama.org.lb/details.php?cid=1&linkid=3170
[2] كلمة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في مسيرة العاشر من محرم 1445 – 29-07-2023
https://video.moqawama.org.lb/details.php?cid=1&linkid=3177
[3] نعني بال”عصبة” “faction” وفقاً لتعريف “James Madison” لها في “Federalist Paper No. 10” (22-11-1787).
[4] التعبير مستخدم من قبل “جنود الرب” وهو تعبير أصرّ على استخادمه أيضاً الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في كلمته بتاريخ 22-07-2023 المذكور سابقاً.
[5] Structural realism.
[6] Security dilemma.
[7] Herz, John H. Political Realism and Political Idealism. Cambridge University Press, 1951.
[8] وهي حالة تعرف بمشكلة الـ”911″ (911 problem) – وهو رقم الطوارئ في الولايات المتحدة الأميركيّة. وهي حالة غياب مرجعيّة مؤسساتية للجوء إليها كضامن للأمن مما يؤدّي لنشوء منطق “المساعدة الذاتية” (self-help logic) وفقاً لـ”John Mearsheimer”.
[9] Mearsheimer, J. (2001). The Tragedy of Great Power Politics (1st ed., p. 33-…). W. W. Norton & Company.
[10] المكوّنات الاجتماعيّة اللبنانيّة ذات وجه طائفي-مذهبي، وهو ما ينعكس في نظامه السياسي وديمقراطيّته التوافقيّة (بحسب تصنيف ” Arend Lijphart “).
[11] استخدم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في كلمته بتاريخ 22-07-2023 هذا التعبير لوصف مجتمع الميم العين معتبراً أنهم “خطراً داهماً” على لبنان.
[12] تغذّي محاولات إلباس الطائفة السنّيّة عباءة الإرهاب محاولات حزب الله التسويق لنفسه داخلياً وفقاً لنظريّة تحالف الأقليّات، وخارجيّاً كضمانة بوجه التطرّف السنيّ. كما تضيف هذه الصورة المحوّرة هالة شرعيّة إضافيّة لسلاح “الحزب” بنظر البيئة الشيعيّة (تعزيز منطق الخوف من الآخر).
[13] يمكن اعتبار أواخر العام 2019 كتاريخ بدء الأزمة الماليّة مع بداية التقلّب بسعر صرف اللّيرة اللّبنانيّة مقابل الدولار الأميركي في السوق الموازية.
[14] بتاريخ 14-10-2021
[15] بتاريخ 21-05-2023
[16] بتاريخ 09-08-2023
[17] بتاريخ 24-01-2022
[18] رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة من الطائفة المارونيّة (مسيحيّون كاثوليك)، وفقاً للأعراف.
[19] العنوان: “جعجع: نحن الكتلة الأكبر ونشكّل الأكثرية مع الأشراف والمستقلّين”. المصدر: صحيفة “نداء الوطن”. تاريخ النشر: 20-05-2022.
[20] المقصود هو النظام الفكري وتبعاته التطبيقيّة لا نظام الحكم.
[21] Aron, R. (1987). DÉMOCRATIE ET TOTALITARISME. Gallimard.
[22] مفهوم ألماني يعني تصوّر شامل أو فهم معيّن عن العالم Merriam-Webster. (2023, 24th August). Weltanschauung.
[23] Aron, R. (1987). DÉMOCRATIE ET TOTALITARISME (p. 298). Gallimard.
[24] Waltz, K. N. (1979). Theory of International Politics. Addison-Wesley.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي