كي يعود إلينا والدي

يناير 28, 2025

A-

A+

مجرمٌ مَن حكمنا سابقًا، لدرجة أنّه أوصل هؤلاء المقاومين الصغار، وحتى الكبار منهم، إلى أن يُطالبوا بطرقهم الخاصّة بأبسط الحقوق الإنسانيّة، بأدنى حدّ من المطالب أو الأمنيات.

رغم متابعتي الدقيقة لما يجري في لبنان والمنطقة منذ سنوات طويلة، لم أجد نفسي يومًا مُتشجّعًا على إعطاء تلاميذي موضوعًا يتمحور حول الوطن. حتى خلال المناسبات الوطنية، كنت أؤدّي واجباتي كمدرّس من دون شغفٍ أو حماسةٍ لتلك المسائل. لقد بدأت أفقد الإيمان بفكرة الوطن الذي بات يبدو وكأنه أصبح ملكًا للآخرين، بينما نحن فيه مجرّد عابرين بين الموت أو السجن أو الهجرة، أو مُقيمين بلا حول ولا قوة نتعايش مع واقعٍ فرضه علينا الجبروت الطائفي والسياسي المحلّي والإقليمي.

بعد سقوط ما سقط خلال الأشهر الثلاثة الماضية، شعرنا جميعًا بغيمة سوداء تنقشع ببطءٍ عن سماء لبنان. فبدأ الأمل يلوح في الأفق، ففكّرت أن أترك بعضًا من هذا الأمل يتسرّب إلى عقول تلاميذي الصغار. أولئك الذين لم أعارضهم سابقًا على رغبتهم في الهجرة، ربما لأنني لم أكن أملك أي حجة تقنعني أولًا.

قررت أن أعطيهم واجبًا بسيطًا، عنوانه “أمنيتي إلى وطني لبنان”. لم أتوقّع أن أتلقّى هذا الكمّ من الإجابات الّتي تعكس براءتهم ووعيهم العميق في آنٍ معًا. كانت أمنياتهم بريئة وصادقة، لكنّها كشفت عن فهمهم الكامل للواقع الّذي نعيشه. كتبوا عن الأشياء الّتي يعتبرها غيرهم في دول العالم أمورًا بديهيّة وعاديّة، لكنّها في لبنان تبدو وكأنّها أحلام.

فطالبوا بزفتٍ على الطرقات الّتي تزدحم بالحفر والمآسي، وبمستشفيات ومدارس وجامعات ومؤسسات تليق بهم، وحدائق عامة نظيفة وشوارع مُضاءة وكهرباء وماء وقوانين حديثة. وتمنّوا أن يصبح لبنان وطنًا لا يموت فيه أحد برصاصة طائشة أو مُوجّهة ضدّ حرّيتهم وحقّهم في التّعبير عن رأيهم، ولا يموت فيه أحد أمام أبواب المستشفيات. كتبوا عن رغبتهم في وطنٍ آمنٍ يستطيعون أن يبنوا فيه مستقبلًا بجانب أحبّائهم.

أكثر ما أثّر بي كان ما كتبه أحدهم: “أريد أن يستقرّ الاقتصاد كي يعود إلينا والدي ويعمل في لبنان”. فكانت هذه العبارة كفيلة بأن نتذكّر جميعنا حجم التضحيات الّتي يقوم بها اللّبنانيّون يوميًّا، كأنْ يعيش الآباء في المنافي والغربة ليؤمّنوا لأولادهم ما حُرموا منه في وطنهم.

في تلك اللحظة، شعرت أنني أتحمّل مسؤوليّة مُضاعفة. فكما أردت أن أزرع فيهم الأمل بوطنٍ جديد، شعرت بأنني أحتاج لهذا الأمل أيضًا. خاصّةً أنّني أقف على أعتاب مرحلة جديدة في حياتي المهنيّة، حيث أوشكت على إنهاء مسيرتي باكرًا في التعليم لملاحقة أحلامي. وأمام الآمال الكبيرة الّتي بدأت تظهر في الأفق، أدركت أنّ رسالة الأمل لا تقتصر على هؤلاء الأطفال فحسب، بل هي جزء من طريقي أيضًا نحو مستقبلٍ لطالما تمنّيته لنفسي في وطني.

في الختام، لننسَ عقودًا مُظلمة مضت ولنتطلّع إلى مستقبل مختلف يبدو مُشرقًا، رغم العقبات بسبب تراكم الأزمات على مرّ هذه العقود. لا نطالب بدولة مثاليّة لا وجود لها أصلًا عبر التاريخ، بل بإنهاء هيمنة من يعبثون خرابًا وفسادًا، ومن يعلّمون الأبرياء الكراهيّة ومنطق العنف والتدمير و”الزعرنة” وحق التطاول على الآخرين، وأنّ التحايل والكذب هما الطريق الوحيد. حان الوقت لإفساح المجال أمام من يحمل حدًّا أدنى من القيم والأخلاق، ومن يصنع الأمل بدلًا من هدمه، ومن سيؤمّن لهم ولنا على الأقل حقوقًا تُعتبر بديهيّة في دول تحترم مواطنيها.

لبنان يستحقّ أن يكون وطنًا لنا جميعًا، وطنًا يعيد الأحلام إلى قلوبنا، والأحباء إلى بيوتنا، والكرامة إلى حياتنا. فلنعمل معًا، لا من أجل أنفسنا فقط، بل من أجل أولئك الأطفال الذين كتبوا هذه الأمنيات البسيطة، لأنّهم يستحقّون وطنًا يشبه أحلامهم.