صندوق النقد الدولي دق ناقوس الخطر وبرّي ألهى الشعب

مارس 28, 2023

A-

A+

يقول توماس هكسلي “لا يكمن الاقتصاد في حفظ المال، بل في إنفاقه بحكمة”، وهذا هو جوهر مشكلة لبنان الاقتصادية، فالانفاق الذي حصل كان ابعد من ما يكون عن الحكمة، اول خطأ حصل في اقتصادنا هو قيام السلطة السياسية بتبذير اموال ليست ملكاً لها بل ملك عامة الشعب. الخطأ الثاني والذي كان مكمّل للخطأ الأول هو ان السلطة السياسية انفقت الأموال على مصالحها الشخصية فاكتسبت هذه السلطة السياسية صفة “المافيا” عن جدارة. وإن كان لايطاليا في ما مضى “مافيا” فان للبنان “مافيا” تحمل صفة رسمية وما اصعب من الفساد عندما يكون مقونن، فانفقت الدولة اموال الشعب على فسادها وفساد حاشيتها فكانت النتيجة ان يلحق لبنان قطار البلدان ذات الاقتصادات الفاشلة والمنهارة ويكاد ان يصبح في طليعتهم.

ان ما يفرق  لبنان يوم سمّيَ “سويسرا الشرق” عن لبنان الجديد هي السلطة السياسية، ففي القدم كان للبنان طبقة سياسية ذات رؤية وضمير حي، فعرف لبنان عصره الذهبي بسبب سياسيين اداروا الشأن العام في طريقة مناقبية وبعيدة كل البعد عن المصالح الشخصية والزواريب الضيقة، فمثلاً عام 1956 تم اقرار قانون السرية المصرفية الذي منع المؤسسات المالية من الكشف عن هوية العملاء أو أصولهم، فقد تدفقت رؤوس الأموال الأجنبية إلى المدينة. ازدهرت المعارض التجارية والمساحات الفنية المستقلة والمتاحف. كانت بيروت تضج بالناس والفرص، وبالأفكار. قبل الحديث عن تجربة لبنان مع صندوق النقد الدولي سنقدم لمحة عن تاريخ لبنان الاقتصادي وتجارب بعض البلدان مع “النقد الدولي”.

من سويسرا الشرق… الى فنزويلا الشرق

في عصر الذهبي للبنان اي الستينات حقق لبنان ازدهاراً اقتصادياً كبيراً وكسب لقب “سويسرا الشرق”، ويعود ذلك بسبب السياسات الليبرالية التي اتبعها وتطوره النسبي عن محيطه ولعبه لدور الوسيط في التجارة الاقليمية، وقدرته يومها على انتاج الكثير من الخدمات التي تحتاج اليها الدول العربية. كما استفاد لبنان من المتغيرات في محيطه فبعد سقوط فلسطين ادى ذلك الى ازدهار اعمال مرفأ بيروت كبديل عن مرفأ حيفا.

كما استفاد لبنان من التوترات في البلدان العربية ما ادى ذلك الى تدفق الاموال الاجنبية اليه حيث كان لبنان يشهد استقرار أمني وإزدهار اقتصادي، وبلغ اقتصاد لبنان اوج ازدهاره عند السبعينات قبل الحرب الاهلية.

كبدت الحرب الاهلية خسائر جمة في الاقتاصد اللبناني وفي البنى التحتية وخفضت الإنتاج الوطني بمقدار النصف، اما  بعد الحرب الاهلية فشهد الوضع الاقتصادي بعد الاستقرار وتدفقت أعداد متزايدة من السياح على منتجعات البلاد. شهد الاقتصاد نمواً، حيث بلغت أصول البنوك أكثر من 75 مليار دولار أميركي، كما سجلت القيمة السوقية أعلى مستوياتها على الإطلاق، حيث قُدرت بنحو 10.9 مليار دولار في نهاية الربع الثاني من عام 2006. ألحقت حرب 2006 التي استمرت شهرًا أضرارًا بالغة بالاقتصاد اللبناني، لا سيما قطاع السياحة. على مدار عام 2008، أعاد لبنان بناء بنيته التحتية بشكل رئيسي في قطاعي العقارات والسياحة، مما أدى إلى اقتصاد قوي نسبيًا بعد الحرب.

شهد الاقتصاد اللبناني مرونة مستمرة، حيث نما بنسبة 8.5% في عام 2008 و 7% في عام 2009 و 8.8% في عام 2010. ومع ذلك، ظلت نسبة دين لبنان إلى الناتج المحلي الإجمالي واحدة من أعلى المعدلات في العالم.

لكن مع بداية الحرب السورية اثر ذلك على الاستقرار في المنطقة فحرب سورية اثرت على لبنان خاصةً مع تدخل حزب الله في الحرب ما ادى الى سحب الدول الخليجية يدها من الاقتصاد اللبناني ما اثر ذلك على الاقتصاد طبعاً الى جانب السياسات النقدية الملتوية للسلطة السياسية عبر يدها المالية اي رياض سلامة. وفي تشرين الأول 2019، شهد لبنان احتجاجات عمّت البلاد اندلعت على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

ان انتهاج السلطة السياسية سياسة نقدية خاطئة قائمة على تبذير الاموال على تثبيت سعر صرف الليرة الى جانب الدعم علاوة على فساد السياسيين ادى الى تدهور الاقتصاد اللبناني وانهيار العملة اللبنانية التي وصلت الى حدود الـ140 الف ليرة للدولار الواحد لتعاوض انخفاضها الى الـ100 الف ليرة. وشهد لبنان بين الاعوام 2019 والـ2023 مجزرة اقتصادية بسبب سوء ادارة الازمة فارتفعت مثلاً سعر صفيحة البنزين من الـ20 الف الى المليونين ونيف ليرة لبنانية كما ارتفاع اسعار سلع الغذاء بشكل حاد، ليصبح لبنان على خطى فنزويلا ويصبح لقبه “فنزويلا الشرق”.

صندوق النقد الدولي حبل نجاة ام حبل مشنقة؟

ان النظرة حول صندوق النقد الدولي مختلفة من اقتصادي الى اخر، حيث يرى البعض انها اداة للهيمنة على الدول سياسياً من الباب الاقتصادي. ويرى الاخرون ان المشكلة ليس في صندوق النقد الدولي بل بالدول التي تستنجد في صندوق النقد الدولي فهي منهارة بالاصل اقتصادياً بسبب سوء ادارتها المالية وفسادها وان المشكلة ليست في شروط صندوق النقد القاسية ولا الاقتراض منه بل بعد الالتزام بالاصلاحات الواجب اتباعها.

فالنأخذ مثال الارجنتين حيث لم تنجح تجربتها مع صندوق النقد الدولي. بدأت علاقة الأرجنتين مع صندوق النقد الدولي في وقت مبكر مقارنة بمعظم دول العالم، حيث استنجدت بوينس آيرس بالصندوق قبل أكثر من 60 سنة، وحصلت بالفعل على أول قرض في عام 1958، ومنذ ذلك الوقت ربطت الأرجنتين مستقبلها واقتصادها وعملتها وموازنتها بمطالب الصندوق الذي أبرمت معه 22 اتفاقية حصلت من خلالها على قروض ضخمة.

ومع كل حالة تعثر تندفع الأرجنتين أكثر نحو صندوق النقد الدولي لتحصل في العام 2018 على أكبر قرض في تاريخ المؤسسة المالية الدولية بقيمة 57 مليار دولار، ساعتها ظنت الحكومة أن هذا القرض السخي كاف لطمأنة الأسواق المحلية والأجنبية على حد سواء، خاصة وأنها ستمكنها من سداد الديون الخارجية ومستحقات أصحاب السندات الدولية

لكن بعد أقل من عامين لعمر أكبر قرض في تاريخ الصندوق، عاودت الأرجنتين اللجوء إلى المؤسسة الدولية للخلاص من حصار المقرضين الذي يهدد أكبر اقتصادات أميركا الجنوبية بالإفلاس.

للعديد من الدول تجارب مع صندوق النقد الدولي ولم تتمكن هذه الدول من تحسين وضعها الاقتصادي.

لبنان… وصندوق النقد الدولي

حذّر صندوق النقد الدولي، اليوم الخميس، من أنّ لبنان يمرّ في “لحظة خطيرة للغاية” في ظل انهيار اقتصادي متسارع، منبّهاً من أنّ التقاعس عن تطبيق إصلاحات ملحّة من شأنه أن يدخل البلاد “في “أزمة لا نهاية لها”.

وفي مؤتمر صحافي في ختام زيارة لبيروت، قال رئيس بعثة الصندوق إلى لبنان ارنستو راميريز ريغو “نعتقد أن لبنان في لحظة خطيرة للغاية، عند مفترق طرق”، مضيفًا أنّ “الستاتيكو القائم والتقاعس” عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخل البلاد “في أزمة لا نهاية لها”.

وأعلن صندوق النقد الدولي، العام الماضي، توصله إلى اتفاق مبدئي مع لبنان على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات. لكن تطبيقها مرتبط بالتزام الحكومة تنفيذ إصلاحات مسبقة وإقرار البرلمان لمشاريع قوانين ملحة، أبرزها قانون “كابيتال كونترول” الذي يقيّد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من المصارف، إضافة الى إقرار تشريعات تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية.

هنا نرى بوضوح ان المشكلة تكمن في السلطة السياسية لا في صندوق النقد الدولي، فالمافيا اللبنانية ترفض اي نوع من الاصلاحات المطلوب تنفيذها من قبلها، وتغض النظر عن تطبيق اي قرار يخرج لبنان من ازمته الاقتصادية. فكيف لهذه الزمرة الحاكمة تطبيق الاصلاحات وهي غارقة في الفساد حتى النخاع.