المحاسبة بين لبنان وإسرائيل:لماذا يتجرّأ السياسيّون في لبنان؟

سبتمبر 3, 2024

A-

A+

المحاسبة كلمة تتردّد على مسامعنا في الأخبار والخطابات والحملات الإنتخابيّة، وهي بالفعل تجربة متكاملة تعيشها الشعوب من خلال مؤسساتها وآلياتها. في جوهرها، تمثّل المحاسبة ركيزة أساسيّة في أيّ نظام سياسيّ ديمقراطي، إذ تتيح للشعوب الحق في محاسبة قادتها على أفعالهم وقراراتهم. سواء من خلال عمليّة الإقتراع الّتي تؤّدي إلى تداول السّلطة، أو من خلال المؤسسات القانونيّة وخاصّةً القضاء. ولكن هل تطبق هذه المبادئ بنفس الطريقة في جميع الدول الّتي تدّعي الديمقراطيّة والقدرة على المحاسبة؟

في الشرق الأوسط نجد مثالَيْن متبايِنَيْن عن النظام الديمقراطي، في كل من لبنان وإسرائيل. ومن خلال المقارنة، يبدو أنّ الفرق بينهما شاسع إلى حد يمكن تفسير سرّ ضعف لبنان وأحد أسرار قوّة إسرائيل. ولا يبدو أنّهما يعيشان نفس الواقع الديمقراطي.

في لبنان، يتمتّع النظام السياسي بِ”مظهر” ديمقراطي، حيث تُجرى إنتخابات دوريّة ولنا كمواطنين حقّ الإقتراع وإختيار حكّامنا، لكن هذا لم يكن كافيًا لبناء ديمقراطيّة حقيقيّة، بل واجهته عوائق عدّة.

يعيش لبنان منذ عقود على وقع تناقضات إجتماعيّة وسياسيّة، ويواجه تحدّيات كبيرة أمام تحقيق المحاسبة، وأحد أهمّها الطائفيّة السياسيّة المبنيّة على فكرة الخوف من الآخر، وهي هي إحدى أهمّ مسبّبات الحروب الأهليّة، ويزيد هذا الخوف تدريجيًّا عند اللّبنانيّين بسبب وجود سلاح غير شرعي في يد طائفة واحدة. وأدّت الطائفية إلى ضرب العصب الأساسي للديمقراطيّة وهي الإنتخابات، ما أدّى إلى إنتاج الطبقة السياسيّة نفسها على مدى عقود وترسيخ نظام سياسي تحاصصي فاسد بعد الحرب اللبنانية، وما زال حتى اليوم يزيد فجورًا.

إنّ غياب المحاسبة في لبنان يعود إلى تحالفات سياسية وطائفيّة متجذّرة هدفها المال والسلطة وتمنع أية محاولة لتطبيق القانون على السياسيّين، وتمثّل ذلك في التضييق على المتظاهرين خلال ثورة 2019، أو لاحقًا على القاضي بيطار وما تلا ذلك من أحداث في الطيونة. يقول الكاتب والمفكر اللبناني أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”: في لبنان، الطوائف ليست مجرد طوائف دينية، بل هي بنى إجتماعيّة راسخة تتشابك مع السياسة بشكل يجعل من الصعب تحقيق دولة القانون”. ويُضيف معلوف أنّ هذا التشابك هو ما يرسخ غياب المحاسبة واستمرار الفساد.

رياض سلامة على سبيل المثال، الرجل الّذي بقي يموّل الفساد على مدى عقدَيْن ويواجه اليوم دعاوًى قضائيّة من خارج لبنان، ما زال طليقًا حرًّا. فقد وجد دولة تحميه بينما عجزتْ عن حماية سياسيّين من الإغتيال، وشهداء إنفجار المرفأ من الإهمال، وباسكال سليمان من لجوء فوضويّ غير منظَّم، وأهل الجنوب من التدمير والقتل. أمّا في مؤسّسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة، أكبر بقع الفساد في لبنان، أنفق الشعب اللبناني عشرات المليارات على مشاريع وهميّة لتأمين الطاقة، ولم يتحقّق في الواقع إلّا تأزّم ملف الكهرباء وتملّك القصور في البترون واللقلوق وتيّار “يتقطّع” بإستمرار.

كذلك الأمر في وزارة الإتّصالات والأشغال والصحّة والتعليم وفي الدوائر الرسمية ومرافق الدولة، في المرفأ وعلى الحدود البريّة وفي المصارف. فلا نتفاجئ عندما لا نحظى بخدمة إتّصالات جيّدة، وطرقات مستقيمة وسليمة، ومستشفيات حكوميّة مجهّزة، ولا نستغرب من تسريب إمتحانات رسميّة على هذا النطاق الواسع، وأن يضعف السّوق الشرعي بسبب البضائع المُهَرَّبة.

نرى في إسرائيل نموذجًا مختلفًا، حيث عشرات الأمثلة عن محاسبة مسؤولين رفيعي المستوى. فمنذ تأسيسها، شهدت العديد من الملاحقات القضائيّة والمحاكمات القانونيّة ضد قادة بارزين، بما في ذلك رؤساء ووزراء، ويُعزى ذلك إلى إستقلاليّة القضاء الإسرائيليّ وقدرته على إستخدام سلطته.

من بين رؤساء الحكومات الذين طالتهم الدعاوى القضائيّة: إيهود أولمرت وإيهود باراك وأرييل شارون. فقد أدين أولمرت، الّذي شغل المنصب بين 2006 و2009، بتهم فساد من بينها تلقي الرشوة وخيانة الأمانة، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة 19 شهرًا. أمّا باراك (1999-2001)، فقد خضع لتحقيقات متعلّقة بتهم فساد لكن لم توجَّه إليه تهم جنائيّة.

رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون (2001-2006) أيضًا تورّط في قضايا فساد خلال حياته السياسية، وأبرزها قضية “الجزيرة اليونانية”، التي تتعلق بتهم الرشوة. إلا أن شارون نفسه لم يُقدم للمحاكمة، بينما أدين ابنه عمري شارون، وهو عضو كنيست سابق، بتهم فساد في نفس القضية. كما أدين الإبن بتهمة تقديم شهادات كاذبة والاحتيال في قضية تمويل انتخابات عام 2005، وحكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر.

أمّا الرّئيس الثامن لإسرائيل، موشيه كتساف (2000-2007)، فقد أُدين بالاغتصاب والتحرش الجنسي في عام 2010 وحُكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. كما طال القانون عدد كبير من الوزراء والزعماء السياسيين مثل يتسحاق مردخاي، وزير الدفاع الأسبق، الذي انتهت مسيرته السياسية بعد أن واجه إتهامات بالتحرش الجنسي في عام 2000، حيث أُدين ببعض التهم. ومن الشخصيات البارزة أيضًا أرييه درعي، وزير الداخلية وزعيم حزب شاس، الذي أدين في عام 1999 بتهم تتعلق بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، ما أدى إلى سجنه لمدة ثلاث سنوات. ورغم عودته لاحقًا إلى الساحة السياسية، إلا أنه وجد نفسه مرة أخرى محاطًا بتهم تتعلق بالتهرب الضريبي في قضية جديدة.

كما واجه أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية وزعيم حزب “إسرائيل بيتنا”، تحقيقات عديدة في قضايا فساد، حيث وُجّهت له تهم الاحتيال وخيانة الأمانة. ورغم أن القضاء برّأه من جميع التهم في عام 2013، إلا أن هذه القضية ألقت بظلالها على مسيرته السياسية. ولا ننسى شلومو بن عزرا، وزير الصحة الأسبق وعضو الكنيست عن حزب شاس، الذي أُدين بالاحتيال والابتزاز والرشوة في قضية تتعلق بمساعدة مقاولين بشكل غير قانوني في مشاريع بناء.

ومن بين الأسماء الأخرى التي شغلت الرأي العام، حاييم رامون، وزير العدل الأسبق، الذي أدين في عام 2007 بتهمة التحرش الجنسي بعد قيامه بتقبيل موظفة دون موافقتها، وحُكم عليه بأداء خدمة مجتمعية لمدة 120 ساعة. كما أن تساحي هنغبي، الذي شغل مناصب وزارية متعددة، وجد نفسه متورطًا في قضية تتعلق بشهادة الزور بشأن تعيينات سياسية غير قانونية في عام 2010، وعلى الرغم من عدم سجنه، فقد فُرضت عليه غرامة مالية.

أمّا رافاييل إيتان، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) الأسبق ووزير في الحكومة. تمت محاكمته بتهمة الكذب تحت القسم في قضية تتعلق بمحاولة التأثير على وسائل الإعلام، ولكنه أُدين فقط بتهمة شهادة الزور، وتم الحكم عليه بغرامة مالية.

والعديد من المسؤولين الذين لم تُوَجَّه إليهم تهم رسميّة لكن تمّ التحقيق معم بتهم فساد مثل يسرائيل كاتس، وزير النقل والمواصلات وعضو كنيست بارز. ووزير الداخلية ثمّ الخارجيّة الأسبق شلومو بن عمي.

ما يهمّ متابعي ملفّات الفساد في إسرائيل اليوم هو وضعيّة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي والأطول خدمة في تاريخ الدولة، بنيامين نتنياهو، الّذي يواجه منذ عام 2019 محاكمات بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في قضايا تتعلق بتقديم مزايا غير قانونية له ولأسرته من قبل رجال أعمال ومحاولة التأثير على وسائل الإعلام.

حاول نتنياهو العام الماضي قبل حرب غزّة تمرير عدد من التعديلات على النظام القضائي تؤدّي إلى تقويض إستقلاليّة القضاء الإسرائيلي بحجّة إحداث توازن بين دوائر الحكم، لكنّ تمّت مواجهته سياسيًّا وقضائيًّا وشعبيًّا وما خلّصه فعلًا هي عمليّة “طوفان الأقصى”.

تدفعنا هذه المقارنة إلى ربط ضعف لبنان بغياب المحاسبة وتحكّم طبقة سياسيّة فاسدة فيه، وأدّت إلى شلّ الدولة اللبنانيّة في جميع القطاعات والمجالات، في الصحة والتعليم والإدارة والإقتصاد والبنى التحتية والعلاقات الدولية، والسيادة وتطبيق القانون. وأكثر مَن يعرقل قيام الدولة وتحقيق الديمقراطية والمحاسبة هو حزب الله الّذي يتمتّع وحده برفاهيّة حمل السلاح غير الشرعي، وهو جزء من تلك التحالفات الطائفيّة حيث غطّى الفساد ليُسْكَتَ عن سلاحه وسيطرته على الأرض والدّولة.

هو الحزب الّذي اتُهِمَ أحد أعضائه بقتل الرئيس الحريري ولم يُحاسَب، وهو الحزب الذي احتلّ بيروت في العام 2008 ولم يُحاسَب، وتعدّى على اللبنانيين خلال ثورة 17 تشرين، وأتى بمئات الأطنان من نيترات الأمونيوم دمّرت نصف العاصمة وأيضًا لم يُحاسَب بل عرقل التحقيقات علنًا.

لا يمكن لمنظومة سياسيّة عندها هذا الكم من الوقاحة أن تستمرّ في فسادها لعشرات السنين من دون وجود يد خارقة تحميها، وهذه اليد تتمثّل بسلاح حزب الله الّذي كان حاضرًا ليتعامل بالترغيب أو الترهيب مع كل ما يهدّد هذه المنظومة. وإن أراد الحزب حقًّا مواجهة العدوّ الإسرائيليّ من باب مصلحة لبنان فقط، سيستنتج أنّ بناء دولة قويّة هو الحلّ، وهذا غير ممكن بوجود سلاحَيْن وتعطيل مؤسسات الدولة.

في الختام، من دون محاسبة لن يخشى السياسيّون الرأيَ العام وسيتجرّأون على تغليب مصلحتهم الشخصيّة أو الأجندات الخارجيّة على حساب المصلحة العامة. وهذا سرّ قوّة الدّول الّتي تُحافظ على إستمراريّتها وازدهارها، وتدفع باتّجاه تحقيق المصلحة العامّة، وتعمل دائمًا على محاربة الفساد وضمان أن تكون المحاسبة هي الأساس في إدارة الشأن العام.