إسرائيل: تفنّن في قتل الشاهد

فبراير 15, 2025

A-

A+

الصحافة ليست في مأمن من الإستهداف الإسرائيلي، هذا ما يثبته واقع الحال، فإستهداف الإحتلال الإسرائيلي للمؤسسات والمكاتب الإعلامية خلال العدوان الأخير بين عامي 2023 و2025 كان جزءاً من سياسة إسرائيلية تهدف إلى تقويض قدرة الإعلام على نقل الحقيقة حول الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في فلسطين ولبنان، إلى المجتمع الدولي.

منذ بداية العدوان دمَّر جيش الاحتلال بشكل ممنهج البنية التحتية لوسائل الإعلام وخنق الصحافة، سواء من خلال استهداف الصحافيين وقتلهم، أو تدمير المباني الإعلامية، أو قطع إمدادات الإنترنت والتيار الكهربائي، أو منع الصحافة الأجنبية من دخول غزة جملة وتفصيلا، إضافة إلى إغلاق مكاتب إعلامية لحجب نقل الصورة.

وبحسب المسؤول الإعلامي لمؤسسة سمير قصير جاد شحرور، فإن مركز “سكايز” لرصد الإنتهاكات الإعلامية والثقافية في المشرق العربي وثّق استشهاد ما لا يقل عن 220 صحافي في قطاع غزة و12 صحافياً في لبنان إضافة إلى ما لا يقل عن 60 مؤسسة ومكتب إعلامي تم استهدافهم إما بشكل جزئي أو كلي عدا عن إغلاق مكاتب مؤسسات إعلامية في سعي من الإحتلال لإخفاء الحقيقة فإسرائيل هي عدو الحقيقة.

⁠استهداف المؤسسات الإعلامية في لبنان وفلسطين

خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2023-2024، استهدف الاحتلال عدّة مواقع إعلامية، مما أدى إلى تدمير مرافق إعلامية هامة في بيروت وغيرها من المدن، وكانت المؤسسات الإعلامية اللبنانية والدولية التي تغطي الأحداث من بين الأهداف المستهدفة، كما أن العديد من القنوات المحلية مثل “الميادين” و”الجديد” تعرضت لمضايقات وتهديدات، بما في ذلك القصف المباشر لبعض مواقعها في المناطق الحدودية.

وكما في الحروب السابقة، تعرضت المؤسسات والمكاتب الإعلامية في غزة لعدة هجمات جوية، حيث دمّر الاحتلال مكاتب محطات تلفزيونية وصحف ومكاتب وكالات أنباء دولية، شمل الإستهداف المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والدولية مثل قناة فلسطين اليوم، قناة الجزيرة، وكالة أسوشيتد برس، وغيرها بشكل متعمد مما أدى إلى تدمير المباني والمعدات وتقليل قدرة الصحافيين على العمل في ظروف الحرب.

في الضفة الغربية، ورغم أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يستهدف الإعلام بنفس الكثافة مثل غزة، ولكن شهدت بعض المناطق حالات من التضييق على الصحافيين واستهداف المؤسسات الإعلامية، خاصة في مناطق مثل رام الله والخليل، حيث تعرض بعض الصحافيين للملاحقة والاعتقال، وتمّ تدمير بعض المعدات الإعلامية التي كانت تُستخدم لتغطية الهجمات والاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين عدا عن إغلاق مكاتب إعلامية مثل قناة الجزيرة.

فبعد حملة تحريض واسعة، قررت سلطات الاحتلال إغلاق مكتب قناة الجزيرة في رام الله، ويضم المقرّ مكتبي قناتي الجزيرة العربية والإنجليزية الإخبارية، ويقع في عمارة وسط مدينة رام الله الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية التي منحتها ترخيص العمل. حيث اقتحمت قواته فجر يوم الأحد 22 أيلول سبتمبر 2024 المكتب وصادرت محتوياته ومنعت موظفيه من العمل، ثم أقفلت مدخله بلحام ألواح من الصاج.

مكتب قناة “فلسطين اليوم” في مرمى الإستهداف أيضاً

قتل متعمّد بدم بارد، وترويع واعتقالات، واستهداف لأفراد العائلة والمنازل والممتلكات، هذه هي وقائع الحياة اليومية للصحافيين في قطاع غزة، هذا إلى جانب التهديدات والاعتقالات خارجها في بقية أنحاء فلسطين، في محاولات لا تنتهي من الاحتلال لإسكات صوت الحقيقة الذي يفضح ممارساته ويُعرّي مزاعمه أمام العالم. ورغم الحماية التي يجب أن يتمتعوا بها، إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يتوان عن استهداف الصحافيين على مرأى ومسمع العالم.

وفي هذا الصدد، يقول مراسل قناة “فلسطين اليوم” خميس أبو حصيرة، “إن الاحتلال تعمّد استهداف الصحافيين بعد قصفه للمؤسسات والمكاتب الإعلامية، فبعد اتخاذهم من المستشفيات مكاناً للتغطية ظناً منهم أنها أماكن آمنة تحميهم من الاستهدافات، تمّ قصف المستشفيات والخيام التي يتواجدون فيها أو الخيام التي تتواجد بالقرب منهم عدا عن استهداف السيارات التي يتنقلون فيها في رسالة تهديد لهم.

وبحسب أبو حصيرة فإن الإحتلال استهدف مكتب القناة مرتين خلال العدوان على قطاع غزة، المرة الأولى كانت في كانون الأول ديسمبر 2023 بعدة قذائف في ما أدى إلى إحتراق إستوديوهات القناة بالكامل وتدمير أجزاء كبيرة منها، أما المرة الثانية فكانت في شهر آذار مارس 2024 حيث أقدم الاحتلال على استهداف البرج كاملاً وتم تدمير جميع مقتنيات البرج الذي يضمّ العديد من المكاتب الإعلامية.

على الصعيد نفسه، يقول مدير قسم الأخبار في قناة فلسطين اليوم أ. موسى إبراهيم، “إن الاحتلال هدف إلى ترهيب الصحافيين وطمس الحقيقة، ومنعهم من التغطية الإعلامية لجرائمه، إلا أنه وعلى الرغم من تلك الإستهدافات تمكّن  الصحافيون والإعلاميون من اختراق حاجز الخوف والإرهاب الذي حاول الاحتلال فرضه عليهم وتمكنوا من إيصال الرسالة إلى العالم، وفضحوا الاحتلال وجرائمه ضد الإنسانية.

ويلفت إلى أن الاستهدافات لم تقتصر فقط على قصف المكتب الرئيسي في غزة إلا أنها تعدّت ذلك إلى إستهداف العاملين في القناة أيضاً من إداريين وصحافيين ومراسلين فمنهم من أصيب ومنهم من ارتقى شهيداً ومنهم من ارتقت عائلاتهم شهداء ومنهم من ارتقى مع عائلته جميعاً. كما وتمّ استهداف الخيام التي يقيم فيها صحفيو القناة، واستهداف السيارات التي يتنقلون بها.

ويضيف أن الاحتلال عندما كان يستهدف الصحافيين كأفراد أو المباني التي تضم المكاتب والمؤسسات الإعلامية أو حتى المعدات، كان الاستهداف من دون سابق إنذار وبالتالي لم يكن هناك رفاهية الوقت ليتمكن الصحافيون من نقل معدات أو تجهيزات فكان من الصعب حماية التجهيزات والمحافظة عليها في ظلّ الحرب المدمرة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة.

ذرائع إسرائيلية وردود دولية

⁠أدانت منظمات مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” هذه الهجمات، واعتبرت استهداف الصحافيين والمكاتب الإعلامية جريمة حرب. وقد طالبت بتوفير الحماية اللازمة للصحافيين العاملين في المناطق المتضررة.

كما أدانت الأمم المتحدة أيضاً استهداف وسائل الإعلام، وأكدت ضرورة حماية الصحافيين في مناطق النزاع بموجب القانون الدولي الإنساني، ودعت العديد من الهيئات الحقوقية إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الهجمات، وجعل الاستهداف المباشر للإعلاميين جزءاً من جدول الأعمال في المحاكم الدولية.

وفي هذا الإطار يرى الإعلامي جاد شحرور أن استهداف وسائل الإعلام يعتبر جزءاً من حرب نفسية تهدف إلى فرض السيطرة على السرد الإعلامي في وقت النزاع، حيث يسعى الإحتلال الإسرائيلي إلى الحدّ من نشر الصور والفيديوهات التي تُظهر المعاناة الإنسانية أو الانتهاكات، إضافة إلى التضييق على تغطية الحقائق من خلال تدمير مكاتب الإعلام، فكان الهدف الإسرائيلي هو الحدّ من قدرة الصحافيين على توثيق وتغطية أحداث الحرب، وبالتالي تقليل تسليط الضوء على الأضرار المترتبة على عدوانه.

ويعتبر أن الإحتلال حاول جاهداً حجب الحقيقة فمع استهداف الصحافيين والمكاتب الإعلامية ظن أنه يعيق نقل الواقع الحي للأحداث، وبذلك يعوق قدرة المجتمع الدولي على تقييم الوضع بشكل عادل، إلا أن استهداف الإعلام زاد من الضغط الدولي على الكيان الإسرائيلي لتقديم توضيحات حول سياسته في استهداف الصحافيين والمرافق الإعلامية ما أدى إلى زيادة الدعوات للضغط على الحكومة الإسرائيلية من قبل المنظمات الحقوقية والدولية.

ويؤكّد شحرور على أن التسلح بالقوانين الدولية لحماية الصحافيين يبقى جزء من حملات التوعية التي يجب خوضها لتذكير الصحافيين والمؤسسات الإعلامية بها.

القوانين الدولية لحماية الصحافيين

على مدار أكثر من 60 عاماً صدرت قوانين دولية عديدة لحماية الصحافيين وتمكينهم من الدفاع عن حقوقهم في زمن السلم وحالات الحرب والنزاعات العسكرية.

حيث ينصّ القانون الدولي الإنساني في المادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق بإتفاقية جنيف 1949 لحماية المدنيين في النزاعات العسكرية، على أن الصحافيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد، شريطة ألا يقوموا بأعمال  تخالف وضعهم كمدنيين.

ونصّت دراسة للجنة الدولية للصليب الأحمر عن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني 2005، في المادة 34 من الفصل العاشر، “على إحترام وحماية الصحافيين المدنيين العاملين في مهام مهنية بمناطق نزاع مسلح ما داموا لا يقومون بجهود مباشرة في الأعمال العدائية”.

كما وينصّ القرار 1738 لمجلس الأمن الدولي على:

  • إدانة الهجمات المتعمدة ضدّ الصحافيين وموظفي وسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم أثناء النزاعات المسلحة.
  • مساواة سلامة وأمن الصحافيين ووسائل الإعلام والأطقم المساعدة في مناطق النزاعات المسلحة بحماية المدنيين هناك.
  • اعتبار الصحافيين والمراسلين المستقلين مدنيين يجب احترامهم ومعاملتهم بهذه الصفة.
  • اعتبار المنشآت والمعدات الخاصة بوسائل الإعلام أعيانا مدنية لا يجوز أن تكون هدفاً لأي هجمات أو أعمال انتقامية.

محاسبة إسرائيل على جرائمها

إن حجم ما حصل خلال العدوان من استهداف للمؤسسات والمكاتب الإعلامية واستشهاد ما يفوق الـ 200 صحافي يقتضي وفق أ. موسى إبراهيم، تحركاً جماعياً مستمر من قبل كل المؤسسات الصحافية على الصعيد المحلي والدولي بالإضافة إلى كل المنظمات والمؤسسات المعنية بحماية الصحافيين من خلال رفع دعاوى دولية ضدّ الإحتلال الإسرائيلي وملاحقته على الجرائم التي ارتكبها.

المراسل أبو حصيرة يرى أن على المؤسسات والمنظمات الدولية توثيق جرائم الاحتلال وأخذ شهادات بعض الصحافيين الذين تعرضوا لعمليات استهداف ورفعها إلى محكمة الجنايات الدولية ومحاكمة من ارتكبوا هذه الجرائم.

وفي السياق يلفت شحرور، إلى أنه توجد الكثير من القوانين التي تتعلق بحماية العمل الصحافي والصحافيين ولكن الذي يغيب عن هذه القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية هو موضوع آليات المحاسبة بمعنى أن هذه الآلية غير مفهومة، كما وأن هناك إزدواجية في المعايير بالتعامل مع القوانين والمحاسبة في ظلّ الدعم الدولي الذي يحظى به الاحتلال، ودائماً “البقاء للأقوى” فلا يوجد قوة قادرة على الضغط على الكيان الإسرائيلي للخضوع إلى القانون الدولي.

⁠دور الإعلام الفلسطيني والدولي في استعادة السردية

شنت إسرائيل حربا شرسة على الصحافيين من خلال شتى أشكال الاستهداف وأشدها، ومنها القتل مع سبق الإصرار، في مسعى منها لنسف الرواية الفلسطينية وإظهار ما تروجه هي وأذرعها الإعلامية على أنه الحقيقة الوحيدة ذات المصداقية.

وفي هذا الإطار، يقول أ. إبراهيم إنه رغم الهجمات المستمرة على الصحافة في غزة ولبنان والضفة الغربية ورغم التضييقات والاستهدافات إلا أن الصحافيين ووسائل الإعلام أصروا على إكمال الرسالة وأصروا على إيصال السردية الفلسطينية في ظلّ الهيمنة الغربية والهيمنة الإسرائيلية على وسائل الإعلام في كل أرجاء المعمورة وتمكنوا من الاستمرار في عملهم باستخدام التقنيات الحديثة مثل البث المباشر من الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي وفضحوا الرواية الإسرائيلية.

ويعتبر أن هذا الدور بدأت تردداته تظهر في تبدل الرأي العام الغربي سواء من خلال ما عُرف بإنتفاضة الجامعات في الولايات المتحدة والتي امتدت إلى كندا وبعض الدول الأوروبية أو من خلال التظاهرات المنددة بالعدوان و المتضامنة مع القضية الفلسطينية والمناصرة لقطاع غزة والتي ما زالت قائمة حتى الآن.

نخلص في القول، إن حماية الصحافيين في أوقات النزاع هي مسؤولية جماعية تشمل الحكومات، المنظمات الدولية، وسائل الإعلام نفسها، والصحافيين. ويتطلب الأمر توفير بيئة آمنة تعمل فيها الصحافة المستقلة بحرية، إضافة إلى الالتزام بالقوانين الدولية التي تكفل حقوق الصحافيين في مناطق النزاع. أما التحديات التي يواجهها الصحافيون تتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف لضمان سلامتهم وحمايتهم أثناء أداء واجبهم المهني في ظلّ الظروف القاسية.

كما أن حماية المكاتب والمؤسسات الإعلامية من الاستهداف الإسرائيلي تتطلب استراتيجيات متعددة تشمل التدابير القانونية، الفنية، اللوجستية والتدريبية، ويجب أن يتم العمل على تأمين بيئة آمنة للصحافيين والإعلاميين لضمان قدرتهم على توثيق الحقائق ونقلها إلى العالم بشكل شفاف.

في الوقت نفسه، يحتاج الإعلام الدولي والمحلي إلى دعم المنظمات الحقوقية الدولية من أجل تعزيز الضغط السياسي على الأطراف المتورطة في النزاع من أجل احترام حقوق الصحافيين وحماية المؤسسات الإعلامية.

    الأكثر قراءة

    اقرأوا المزيد من المقالات لهذا الكاتب