


بعد عشرين عامًا، العدالة قالت كلمتها
فبراير 14, 2025
A-
A+
عشرون عامًا مرّت على اليوم الذي هزّ لبنان والمنطقة، وافتتح مرحلة جديدة من الصراع بين مشروع الدولة ومشروع الدويلة، بين من أراد بناء وطن حديث، ومن سعى لإبقائه رهينة للفوضى. لم يكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري مجرّد جريمة سياسية، بل كان إعلانًا واضحًا من محور الشرّ عن مخططه، واستفتاحًا لسلسلة اغتيالات استهدفت ممثّلي الشعب اللبناني وما يجسّدونه من ناس وتاريخ وروح وطنية، في محاولةٍ لاغتيال فكرة الدولة نفسها.
وبعد عقدين من ذلك الزلزال، يبدو أن العدالة، التي طالما بدت مستحيلة في لبنان، فرضت نفسها بطريقة لم يكن أحد يتوقّعها. فلم تأتِ من المحاكم المحلية أو الدولية، التي أدانت بعض أدوات الجريمة، بل جاءت من دوران الزمن وتقلّباته. وكأنّ السماء أرادت فرض عدالتها بأسلوبها الخاص، فاستدارت الأرض حتى أدارت يد القاتل فأصابته، وأجهزت عليه بسلسلة ضربات قاتلة، وبزحف بؤساء تسلّحوا بعقود من القهر والحرمان والظلم.
لم يسقط القاتل بسيف العدالة التقليدية، لكنّه تلقّى ما يستحقّه عبر الانهيار التدريجي لمشروعه، وسقوط أركان المحور الذي ظنّ يومًا أنه باقٍ لا يهتز، بدءًا من لبنان وصولًا إلى سوريا وسائر المنطقة.
رفيق الحريري: رجل الدولة والمشروع
لم يكن الرئيس الحريري مجرّد رئيس حكومة، بل تحوّل إلى رمز، جنبًا إلى جنب مع سائر شهداء 14 آذار، لمشروع بناء الدولة اللبنانية الحديثة. كان رجل مؤسساتٍ آمن بأن لبنان يستحق أن يكون وطنًا يضاهي دول العالم المتقدّمة، لا ساحةً للصراعات والتسويات القاتلة. وكان اغتياله محاولة لضرب هذا الحلم في الصميم، لكن كما أثبتت السنوات، لا يمكن ليد القاتل أن تمحو فكرة، ولا لسياسة الترهيب أن تُطفئ جذوة التغيير.
خلال رئاسته للحكومة، قاد الحريري مشروعًا طموحًا لإعادة إعمار بيروت بعد الحرب الأهلية، وأسس “مؤسسة رفيق الحريري” التي قدّمت منحًا دراسية لآلاف الطلاب اللبنانيين، إيمانًا منه بأن التعليم هو الأساس لنهضة لبنان. كما عزّز علاقات لبنان مع الدول العربية والغربية، خاصة فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، مما مكّن البلاد من الحصول على دعم اقتصادي وسياسي عزّز استقرارها في تلك الفترة.
وفي السياسة، لعب دورًا محوريًا في دفع المجتمع الدولي إلى الاعتراف بسيادة لبنان عبر القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن عام 2004، والذي طالب بانسحاب الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح الميليشيات. كان هذا القرار حجر الأساس لإنهاء الهيمنة السورية التي جثمت على صدر لبنان لعقود.
العدالة ليست ذكرى، بل مسار مستمر
اليوم، لا تتجدّد الذكرى العشرون للبكاء على الأطلال والتحسّر، بل للاحتفال بانتصار الحق، الذي كان لا بدّ أن يتلقّى بعض الضربات، الواحدة تلو الأخرى، حتى يُتوَّج أخيرًا بانتصار ساحق على الظالم والمستبدّ والمجرم، وشهود الزور والمتملّقين وتجار الأكاذيب والسلاح والمخدرات.
إن إحياء ذكرى الشهيد الحريري هذا العام يأتي مختلفًا، محمّلًا بالآمال لا الخيبات، بالأمل في تحقيق العدالة الكاملة، العدالة التي ينتظرها أهالي الشهداء، والمتضرّرون من انفجار المرفأ، والمظلومون في السجون الصغيرة والكبيرة، واللبنانيون الذين فقدوا ديمقراطيتهم وسيادتهم وثقافتهم، والمغتربون الذين هُجّروا قسرًا بحثًا عن حياة كريمة.
أما الآن، فعلى الأرض أن تستكمل رحلة العدالة التي بدأتها السماء، عبر قضاء مستقلّ وقضاة نزيهين، وانتخابات بلا تزوير أو ترهيب، ومن دون أموال الكبتاغون والمشاريع الفارسية. العدالة تتطلّب إرادة حقيقية للتغيير، تغيير واعٍ وسليم، لا انتقامًا ولا شمولية، بل رؤية يقودها شباب لبنان، من سياسيين وحزبيين ومستقلين وحقوقيين ومناضلين.
لبنان الذي كان يُلقّب بـ”سويسرا الشرق” في منتصف القرن العشرين يجب ألا يبقى مجرد ذكرى جميلة، بل محطة انطلاق نحو مستقبل أجمل، أكثر ازدهارًا واستقرارًا، يُبنى بسواعد نظيفة وعقول طموحة، على خبرات قاسية وطموحات كبيرة.
ذلك هو لبنان الذي حلم به الشهيد رفيق الحريري وسائر شهداء الوطن. لن يبقى حلمًا، بل وعدًا نعمل جميعًا على تحقيقه.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي