السعودية أوكرانيا والجبهات المختلفة: صحوة واقعية للعالم الجديد

مايو 23, 2023

A-

A+

سرقت المملكة العربيّة السعوديّة مرّة جديدة الأضواء في الشرق الأوسط بمناورة سياسيّة أخرى مستقبلة رئيس النظام السوري بشار الأسد بعد قطيعة دامت لأكثر من عقد.

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي يريد تسويق نفسه كرائد للإسلام السياسي الجديد وقائد لجامه نحو الحداثة، رافعاً بحنكته الجيواستراتيجية مركز مملكته من لاعب إقليمي إلى حجر زاوية دولي.

وإذ يجد ولي العهد مرجعيّته في المعايير الواقعيّة للعلاقات الدوليّة، يغرق منتقدوه في مراجع الليبرالية.

فلعلّ ذاكرة العالم الغربي الجماعيّة لم تنهض بعد رغم وقع المشاهد الحيّة لحرب الخنادق الأوكرانيّة. لم يعوا بعد أنّ جنازير دبابات الدب الروسي الصدئة تسحق الركائز القيميّة للمنظومة الدوليّة القائمة منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

على الرغم من اخفاقاته العسكرية المتكررة، إلّا أنّ الاجتياح الروسي لأوكرانيا عزّز كاريكاتورية الطبيعة الأناركيّة للساحة الدوليّة، ولما لذلك من انعكاسات استراتيجية حتميّة.

وبينما تمهر مجموعة “الجنوب العالمي” غير المتجانسة في اللعب على أوتار عالم متعدد الأقطاب، يظهر العالم الغربي وكأنه يرفض الخروج من اغراءات عالم كانط اليوتوبيّ ليرى أنّ فضائه استثناء زمني وجغرافي في آن.

ظن الغرب أنّ انهيار جدار برلين ردم تحته المعايير التقليديّة للقوّة، وأنّ “نهاية التاريخ” الفوكوياميّة قاب قوسين أو أدنى. وبنى آنذاك النيوليبراليون قصور رمالهم الاقتصاديّة على أنقاض معايير القوّة الملموسة كالعسكر والديمغرافية وغيرها، في وقت كانت القوى التعديليّة تعزّزها بخطوات صغيرة. كالنار تحت الرماد إذاً انتظرت الواقعيّة لحظتها المفصليّة لانتهازها.

وبالعودة الى الرياض، اقتنص الأمير الشاب الفرصة الذهبيّة على “ميزان الجوهرجي” خالطاً أوراق الأمم على طاولة الشرق الأوسط. قاد بن سلمان رحلته الطموحة من التنسيق النفطي مع موسكو في Opec+، الى القبول برعاية بكين في الاتفاق مع طهران، فانتظار البت بطلبه للانضمام الى مجموعة الـ”BRICS” – نادي القوى الاقتصادية الصاعدة -، حتى التطبيع مع نظام دمشق واستقبال رئيسه في جدة. أما في الشأن الأوكراني، وعلى الرغم من حضور الرئيس الأوكراني للقمة العربية، إلا أن ولي العهد السعودي لا يزال يرتدي عباءة الترقب الانتهازي ملتحقاً بنظرائه من قوى اقليميّة/متوسطة وصغيرة. إذ تعتمد هذه القوى، تحت شعار عدم الانحياز، الى الاكتفاء بإرسال شحنات الدعم الإنساني لكييف وإدانة الغزو الروسي من حيث المبدأ في الأمم المتحدة، مع إدراكهم أنها خطوات ترضية للغرب من دون أثر فعلي على مجريات الأحداث. على خط موازي، ترفض معظم هذه الدول تبني العقوبات الغربيّة على موسكو لتتحول عواصمها بذلك جنة لأموال أوليغارشيي الكرملين. وتقفز عربة استراتيجيّة السعوديّة الجديدة فوق الاعتراضات الغربيّة نحو مزيد من الاستقلاليّة في المسار والمصير.

بالمقابل، تقبع البراغماتيّة الاستراتيجيّة للغرب في زنزانة الدوغما الليبراليّة مقيّدة بسلاسل شعبويّة. هي صيغة وليدة عقود من انصهار النظريات الليبرالية بالفعل السياسي من جهة، ودمجها مع القيم الاجتماعية من جهة أخرى، حتى أصبحت المعيار المركزي لبلورة وقياس السياسة الخارجية. تناسى صانعو القرار بذلك أن هذه القيم وليدة مسار تاريخي، أي أنها صنيعة بشريّة وتالياً تخضع لإطار زماني-جغرافي.

يتأمّل حلفاء كييف بأن يزيل هجوم الأوكرانيين المضاد ضباب الحرب ويظهر وهن المكينة العسكرية الروسية. وبما أن لا رابح في الحروب بل خاسرون بدرجات متفاوتة، تكمن الجبهة الفعليّة بعيداً عن خط تماس شرق أوكرانيا. فتدويل الصراع (بعيداً عن أن يصبح حرباً عالمية) وضع العالم بين خطابين: أول قيمي مُعَوْلَم، وآخر يرتكز على المصالح الوطنيّة. وإذ يحمل الغرب لواء الخطاب الأول، فالثاني ما من يحمل لواءه بل أصبح رافعة لتبرير التمايز المتصاعد عن الجبهة الأولى. هذا الواقع قد يشكل “ultimatum” الجنوب العالمي في وجه النظام الدولي المبني على القيم الغربية.

ومن وجهة محايدة، لا يكمن الخطر الفعلي في تفكك النظام الحالي بل في وجه النظام الجديد الذي بدأ بالتكشير عن أنيابه. فبين سياسة المدفع الروسي في “الخارج القريب” وجرائم الحرب ونهب الموارد الطبيعية لميليشيات الكرملين في أفريقيا، إلى دبلوماسية فخ الديون الصيني وإبادة مسلمو الإيغور، مروراً بسياسة الأذرع الإيرانيّة وقمع النساء، ولا انتهاءً بالتكتيك الاستبدادي لقطع الاتصالات في الهند.

لربما تعريف “الحداثة” في قاموس النظام السعودي الحالي تتلخّص ب”الدوزنة” السياسيّة المبنيّة حصراً على المصلحة الوطنيّة المتحرّرة من أي اعتبارات قيميّة جاعلاً بذلك طريق دمشق-جدة سالكة على نغمة إشارات مصالح المملكة.