خريجو “اللبنانية” جنود في معركة التعبير الحر.. الفن يعود إلى حرم “الحدث”
مايو 31, 2024
A-
A+
هم كوكبة من الفنانين يعبرون عن معاناة المرأة في مجتمع محافظ من خلال لوحة تصور واقعها اليومي في مساحة ضيقة تسعى للانتعاش في مواجهة تحديات تتعلق بما يمكنهم التعبير عنه بحرية.
مشاهدات من معرض الجامعة اللبنانية – قسم الفنون فرع الحدث – للخريجين والدكاترة يسطّر ما يواجهه هؤلاء من تحديات كبيرة وهم يسعون للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم في ظل القيود المفروضة من قبل المجتمع والأزمات الاقتصادية. هم مرآة لمجتمعهم، حيث يعبرون عن الأزمات والمشاعر العميقة من خلال أعمالهم الفنية، محاولين تجاوز التابوهات الاجتماعية والتعامل مع تداعيات الركود الاقتصادي.
التابوهات الاجتماعية تحدّ من حرية التعبير وتمنع الأفراد من التحدث عن قضايا حساسة أو مثيرة للجدل وتشكّل حاجزاً كبيراً أمام التعبير عن معاناتهم وتجاربهم ويجد هؤلاء أنفسهم في صراع دائم بين الرغبة في التعبير بحرية فيصبح الفن وسيلة للهروب والتعبير عن الأفكار المحظورة. “نقد” التقت بعض الخريجات للتحدث عن هذا الواقع.
عمل مفاهيمي أسميته “The Lebanese LaLa Land”
تقول زهراء حمود انها بدأت رحلتها الفنية بمفهوم غير واعي، فكان الهم إنتاج أشياء “جميلة”، وتضيف “لم أكن أعي أن هذا الوقت الذي كنت أقضيه من العزلة الفنية ما كان الا هروباً من الواقع”. تقول زهراء في حديث لـ”نقِد”، “مواجهتي للواقع اللبناني لم تكن يوماً بطريقة عنيفة، لكنها تطورت عبر السنين فمنذ أربعة سنوات ابتكرت شخصية أرتورو (منحوتة خشبية) الفنان المناهض الثائر بفنه، وبعد العودة للجامعة لمتابعة دراسة الماستر التخصصي أحسست بواجب انساني وهو تناول المواضيع والأزمات السياسية اللبنانية وتصوير الضاحية بطريقة انسانية ومختلفة.
وتقول زهراء، “عدت متحمسة للدراسة لأن الرسم هو المتنفس الوحيد برأيي في لبنان بعيداً عن العنف والعصبية المنتشرة فيه، فبدأت بتجسيد الأفكار الانسانية للشاعر الأسطوري هوميروس، ثم جسدت الواقع الانساني للضاحية فلهذه المدينة وجوه لأبنائها وحياة يومية معبرة يتم تهميشها”.
ورداً على سؤال كيف يمكن للفن ان يطوّر مجتمعاً تقول زهراء “رغم كل شيء لا أستطيع تلويث الفن وما يجسد بأفكار سلبية نعيشها فقمت ببناء عمل مفاهيمي أسميته The Lebanese LaLa Land، فيه يتعايش جميع الأقطاب المتصارعة في لبنان يتداخلون ويتقاطعون رغم اختلافهم. لا يوجود مكان ممثل بجهة معينة فلبنان الحلم لا يمكن أن يعيش بأحادية. نرى شبابيك وسقف شفاف يعكس فكرة حالمة عن شفافية غير موجودة في الثقافة اللبنانية. هناك أفكار مبطنة أكثر عمقاً فالكرتون غير الملون الطاغي على البيت يمثل الانسانيين الذين يتعايشون بصدق من الداخل وهم من يحمون لبنان. هذا البيت اللبناني يمثل ايضاً العائلة اللبنانية، فمع العولمة وتأخر الشرق الثقافي، تعاني الأسرة من التفكك وعدم شفافية أفرادها فيما بينهم”.
التجريد الكامل للعناصر والخطوط والألوان
أما تجربة نجوى أيوب فلا تقل نضجاً، فأسلوبها ميّزها عن أقرانها، مما دفعها الى الاستعانة بها لكي تعكس تجاربها وتروي عن الأحداث النفسية التي رافقتها خلال مرحلة طفولتها، انما عن طريق الفن البصري ذو التقنيات المتعددة. فكانت مجموعتها الفنية الأخيرة “Room” آخر نتاج هذا التأثير الكبير للطفولة. وقد دمجت الفنانة بين التعبيرية والأشكال المجردة التي ظهرت في مجموعتها المؤلفة من إحدى عشر لوحةٍ تسلسليةٍ، تبدأ بأسلوب تعبيري تجريديٍ في عملها الأوّل، لتتجرد بشكلٍ متتالي لتصل إلى مرحلة التجريد الكامل للعناصر والخطوط والألوان في العمل الأخير. وحرصت نجوى على الاعتماد الدائم للألوان الزاهية والعناصر الطفولية في أعمالها الفنية، في غاية لجذب انتباه المشاهدين وتقديم صورة للصدمات النفسية والمشاعر والصراع الداخلي وقسوة المجتمع. فبالنسبة الى الفنانة، تعد الألوان كالحلوة تشكل غلافا ً للأوجاع الداخلية التي يعاني منها الطفل، ومن هنا جاءت تسمية أعمالها في مجموعة “”Room.وعلى الرغم من أن أعمالها الفنية تتمحور حول الطفولة، إلا انه في هذه الأخيرة جو من التناقض بين براءة الطفولة المثالية والواقع القاسي الذي يحمل معه تحديات مستمرة. وقد عبرت عن هذه الأفكار عن طريق الألوان، والتقنيات، والخطوط القاسية، والأشكال المتكررة، حيث خلقت هذه الأساليب لغة بصرية جريئة وملفتة للنظر. تدعو المشاهدين للتأمل واستكشاف العواطف والتجارب البشرية من خلال فنها، بالإضافة إلى ضرورة الوعي والمعرفة بالصحة النفسية، حيث تؤمن نجوى بالقوة العلاجية للتعبير الإبداعي.
الوهم البصري لنقل الصراع اللبناني الى ألوان
أما اعمال امل عباس تعكس الواقع اللبناني وتتناول بعمق تأثير الأزمة الاقتصادية على الصحة النفسية للشعب اللبناني. وتقول أن هدف هذا المشروع هو تسليط الضوء على الأثر النفسي العميق للأزمة وكيفية تعبيرنا عنه من خلال الفن. ففي مجموعتها “Beneath the Calm”، سعت إلى إضفاء طابع روحاني باستخدام عناصر بشرية مستوحاة من الرسومات الفرعونية القديمة والأيقونات البيزنطية. وتقول “أردت أن أُبرز الروحانية البشرية النقية بعيداً عن ثقل الماديات، وتجسيد الطهارة والنقاء الكامنين في الروح البشرية بعيداً عن مظاهر التصنع”.
وتضيف، “الصراع النفسي والضياع الذي عشناه كلبنانيين خلال هذه الفترة كان له حضور واضح في عملي. استخدمت تقنية “الأوب آرت” والوهم البصري لنقل هذا الصراع، مما يتيح للمشاهد التفاعل مع العمل والشعور بالانزعاج النفسي الذي عايشناه جميعاً، عن طريق الانزعاج البصري المتعمد. الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا جلبتا معهما صعوبات واضطرابات نفسية جسيمة، أصابت الجميع بلا استثناء، بغض النظر عن الخلفية السياسية أو الدينية أو الوضع الاجتماعي. كنا جميعنا نشعر بالضياع والعجز والضعف، وكأن الأيام تمر بلا هدف أو معنى. “
و تضيف “في عملي الفني، استخدمت اللون الأرجواني لنقل حالة الضياع النفسي والتوتر، حيث يعكس التعقيد والغموض الداخلي. المربع، كونه الشكل الأكثر استقراراً، يرمز إلى السعي نحو الاستقرار المفقود. أما الحديد المشبك والقماش الخام فيضيفان بعدًا من الصلابة والتقشف، مشيرين إلى القيود المادية والنفسية التي نعيشها.”
وتختم قائلة “هذه التجربة تعكس تجربتي الشخصية وما عايشته في محيطي. لم يكن أي لبناني بخير، هذا كان واقعنا في ذلك الوقت، الواقع الحزين الذي أسرنا وقيدنا. هذه العوامل دفعتني لتجسيد هذا الواقع المشترك في عملي الفني “Beneath the Calm”وهو يعكس الروح التائهة التي تغرق في أفكارها، وتتآكل تدريجياً. قد يبدو الفكر صافياً والمحيط مستقراً وواضحاً، لكن الضياع أدى إلى تصدع هذا الاستقرار الظاهري. العمل يصور التناقض الصارخ بين ما نحاول إظهاره من هدوء واستقرار، وبين الحقيقة الداخلية المليئة بالضعف والهشاشة والانهيار.”
و تقول “من خلال هذا العمل، أردت أن أوصل رسالة قوية: المظاهر قد تكون خادعة، والصراع النفسي الداخلي يمكن أن يكون عميقاً ومؤلماً حتى وإن بدا الشخص أو محيطه من الخارج ثابتاً ومستقراً. “Beneath the Calm” ليس مجرد عمل فني، بل هو تجسيد حي لمشاعر وأحاسيس شعب بأكمله، يعيش حالة من الضياع في ظل أزمات متتابعة. أردت أن يعيش المشاهد تجربة بصرية ونفسية تجعله يتساءل عن عمق الصراعات النفسية التي قد يمر بها الآخرون، رغم ما يظهر على السطح من هدوء واستقرار”.
سنفونية لونية تحولت الى خطوط واشكال
تقول ليلى أيوب أن نقطة التلاقي مع الفن كانت يومية بداية عند الساعة الخامسة فجرا، حين يقرر والدها النهوض من سباته والبدء بيومه، فيصدح صوت الراديو القديم داخل الغرفة الكبيرة ذات السقف العالي، ويعلو صوت فيروز، خالقاً معه عالماً مليء بالألحان ذو الاشكال والألوان الغريبة في مخيلة الفنانة. بالإضافة الى الراديو، كانت الأوركسترا ام كلثوم والعندليب المفضلة عند والدتها تعزف بانتظام بين الحين والآخر، مما حول واقع ليلى الى سنفونية لونية خلقت الفة ما بين الخامتين مع الالحان التي تحولت الى خطوط واشكال على الورق، دفعتها الى بناء عالمها الخاص عن طريقهما، ترجم مؤخراً في آخر سلسلتها الأخيرة من اللوحات والمنحوتات. وتعد هذه الأخيرة تجسيداً لواقع الفنانة الخاصة التي بنته كمحاولة لتجميد تلك الذكريات التي تولدها الموسيقى وتعيد احيائها، حيث يتحول هذا المزيج الى آلة زمنية تنقل الفنانة والمتلقي الى الماضي.
اما إذا أردنا الحديث عن الأسلوب الفني الخاص بالفنانة، فقد خاضت هذه الاخيرة تجارب فنية مختلفة، من الخطوط والرسوم الطفولية، الى الانطباعية والتكعيبية، انما كان معظمها يدور حول الموضع ذاته، كتأكيد على تفضيل الفنانة لواقعها الخاص. وتعد اعمالها الأخيرة مزيج جديد للموضوع نفسه، انما اختارت التجريدية الغنائية والتعبيرية كأسلوب مختلف عما عهدته، حيث استعانت بالخطوط العضوية والتدرجات اللونية المختلفة من البنفسجي والازرق والوردي والاصفر، كانعكاس للأحاسيس العميقة الخاصة بالفنانة التشكيلية عند الارتباط بالذكريات الذي يولدها اللحن بعيداً عن الاشكال.
ومع ان هذه السلسلة الأخيرة تتطرق بشكل كبير الى المشاعر الجميلة التي تولدها الذكريات والحنين من خلال الموسيقى، الا ان ذلك لا يعني انه ليس للفنانة نظرة إيجابية للمستقبل. فمع ان الازمات قد تبدو لامتناهية، الا انه يمكن للفرد ان يبني فقاعته الخاصة، ويطلق العنان لمخيلته المرفقة بالحان الموسيقى، كوسيلة للتخفيف عن الذات.
جنود في معركة التعبير الحر
في هذه الظروف الصعبة، يظهر خريجو/ات الجامعة اللبنانية كجنود في معركة التعبير الحر. يستخدمون الفنون البصرية والتصميم كوسيلة لنقل معاناة مجتمعاتهم وآمالهم. من خلال الرسومات واللوحات والتصاميم، يعبرون عن الألم والأمل، ويقدمون رؤى جديدة تلهم المجتمع وتدفعه للتفكير والتغيير. على الرغم من كل الصعوبات، يبقى الفن وسيلة قوية للتواصل وتجاوز الحدود المفروضة، قادرة على إيصال الرسائل المهمة التي يحتاجها المجتمع في أوقات الأزمات.
و كذلك يتعيّن على الفنانين البصريين والتصميميين التعامل مع تحديات معقدة، بدءاً من التابوهات الاجتماعية وصولاً إلى التداعيات الاقتصادية للحروب. ولكنهم يواصلون الكفاح من أجل حرية التعبير وتقديم أعمال تلامس القلوب وتحاكي الواقع الاجتماعي بشكل عميق ومؤثر. في عالم يسيطر عليه المادية وتغيب فيه القيم الإنسانية، يجد الفنانون والمصممون أنفسهم في موقف صعب. فهم يحاولون التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم في ظل قيود المجتمع المفروضة والتحديات الاقتصادية الناتجة عن الحروب. ومع ذلك، يظل الفن والتصميم وسيلة قوية للهرب من هذه القيود ونقل الرسائل العميقة والمهمة.
من جهة أخرى، تأتي الحروب والصراعات المسلحة لتضيف طبقة جديدة من الصعوبات. الركود الاقتصادي الناتج عن الحروب يؤثر بشكل كبير على القطاع الثقافي والفني، حيث تقل الموارد المالية والدعم المقدم للفنانين. يجد الكثير من الفنانين أنفسهم في مواجهة صعوبات مالية كبيرة، مما يحد من قدرتهم على الإنتاج والإبداع. في هذا السياق، يصبح الفن والتصميم وسيلة للهرب من الواقع القاسي والتعبير عن الأمل والمستقبل الأفضل.
الفنانون والمصممون الذين يتخرجون في عالم مادي لا يحترم القيم الإنسانية يواجهون تحديات مضاعفة. هذا العالم يقدّر النجاح المادي على القيم الإنسانية والأخلاقية، مما يجعل من الصعب على الفنانين الذين يسعون لتقديم رسائل عميقة أن يجدوا مكانهم. ومع ذلك، يظل الفن وسيلة قوية للتعبير عن هذه القيم والمبادئ، حتى في مواجهة مجتمع لا يقدرها.
فهل يمكن لهؤلاء الجنود الحصول على مساحة للتعبير عن القيم الإنسانية والأخلاقية التي يتجاهلها المجتمع المادي و تسليط الضوء على أهمية القيم مثل العدالة، المساواة، والسلام.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي