لبنان في قرنه الثاني رؤية مستقبلية

نوفمبر 15, 2023

A-

A+

“الإقتصاد الحر مقابل سياسة المبادرة الخاصة ومستقبل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية” كان عنوان الندوة الأولى التي دعت اليها الجامعة الأميركية في بيروت وكلية الآداب والعلوم وقسم التاريخ والآثار والتي اطلقت نقاشاً وطنياً تحت عنوان “لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية” تمتد فعالياته حتى شهر آذار المقبل.

 وتقوم المبادرة على تنظيم ورش عمل عدّة، هي عبارة عن طاولات مستديرة تتناول الشؤون السياسية والأمن والاقتصاد والمجتمع والثقافة. والمراد من هذه النقاشات عدم الاكتفاء بتقديم تشخيص للأزمات والمشاكل المزمنة التي يعاني منها لبنان، بل تقديم مشاريع وحلول والتوصل إلى وضع خريطة طريق مستقبلية للبلد.

يتضمن البرنامج الطموح تنظيم 12 ورشة عمل وجلسات حوارية خلال الستة أشهر القادمة، تغطي مواضيع سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية. هدف هذه النقاشات ليس فقط تشخيص الأزمات والمشاكل المستمرة التي يواجهها لبنان، ولكن أيضًا وضع اقتراح مخططات وحلول لخريطة طريق مستقبلية للبلد. في كل جلسة، سيتم تقديم اقتراح بهدف تطوير خطط عملية وشاملة لتنفيذ الحلول المقترحة: الأول قابل للتنفيذ خلال عام، والثاني خلال العشر سنوات المقبلة، والثالث خلال المئة عام المقبلة. تعتمد المنهجية على المبدأ الأساسي أنه لكي يكون المشروع قابلًا للتنفيذ ومستدامًا، يجب تطبيقه على الأقل خلال سنة وعشر سنوات، على الرغم من أن تطوير مشاريع لمئة عام يعتبر أمرًا صعبًا للغاية.

يقول المنظمون بأن الجامعة الأميركية “لن تعمل بشكل مباشر على اقتراح قوانين أو تحديثها كعمل سياسي مباشر. بل العمل على وضع مواد قابلة للتطبيق تطرح للفاعلين، سواء كانوا نواباً أو جهات مدنية أو ناشطين، مع الأخذ بالاعتبار أن لا الأحزاب أو نوابهم لديهم القدرة أو رغبة بتطبيقها. وعليه سيكون المنتج النهائي لهذا الحدث عبارة عن ورقة عمل تلخّص النقاشات والمقترحات، وتعرض وجهات النظر، وتطرح الأسئلة الأساسية التي تواجه لبنان، للاتفاق حول خريطة طريق عملية للمئوية الثانية “.

وتضمنت الجلسة الأولى مداخلتين. المداخلة الأولى:” الرؤية المستقبلية للاقتصاد اللبناني، أي اقتصاد نريد للبنان في مئويته الثانية” تحدثت فيها ديانا منعم المديرة التنفيذية لـ “كلنا إرادة” و ناقشها حسن شري أستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية والخبير في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية. اما المداخلة الثانية عنوانها :” السياسات الاجتماعية في لبنان من اجل العدالة الاجتماعية والمساواة”. حاضر فيها اديب نعمة الخبير في شؤون التنمية والمستشار في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ناقشه أسامة صفا الخبير الأول في السياسات الاجتماعية في اللجنة الاقتصادية والاجتماعي لغرب اسيا-الاسكوا ادارالندوة زياد عبد الصمد المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ومحاضر في الجامعة اللبنانية الأميركية وفي جامعة القديس يوسف.

فمقدمة الدستور اللبناني، الفقرة و، نصت على ان “النظام الاقتصادي حر يكفل المبادرة الفردية  والملكية الخاصة”. ماذا يعني ان يكون الاقتصاد حراً، هل حرية الاقتصاد تعني “دعه يعمل” من دون تدخل من الدولة؟ من يكفل حرية وإعادة الاقتصاد أي المنافسة العادلة ويحدد شروطها؟ ومن يضع الأدوات المباشرة لذلك من الضريبة الى الدعم التوزيع تحقيقا للعدالة التي وردت بدورها في مقدمة الدستور في الفقرة جيم.

وفي تفاصيل الندوة قال زياد عبد الصمد إن الفكرة الأساسية هي أن كل الذين يفكرون اليوم في لبنان للخروج من الأزمة يحاولون الانطلاق من الواقع الراهن للاقتصاد اللبناني وللسياسات الاجتماعية، لذا نحن سنحاول أن نستشرف شكلًا نظاميًّا مختلفًا للوضع الاقتصادي وللسياسات الاجتماعية .

خدمات ذات قيمة مضافة

وأكدت ديانا نعمة أن “لبنان رغم كل شيء، ما زال لديه الموارد لبناء اقتصاد المستقبل، وأهم هذه الموارد هو رأس المال البشري ولدينا أيضًا علامة ” صنع في لبنان” التجارية التي ما زالت بارزة في العالم وما زلنا قادرين على البناء عليها”.

وأضافت، “أيضًا لدينا الموارد الطبيعية من شمس وهواء والموقع الجغرافي متميّز. لبنان بلد صغير وليس بحاجة إلى الكثير من الموارد كي نطلق عجلته الاقتصادية. ما نحتاج إليه هو أن نوظف الموارد الموجودة عندنا، ونركز على تصدير منتجات وخدمات ذات قيمة مضافة وبرأس مال بشري، مثل الصناعات والمنتجات الفنية والثقافية والتصميم وخدمات التكنولوجيا، بالإضافة إلى السياحة والخدمات المرافقة لها. وحتى نكون واقعيين، لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد دون وجود دولة وأمن، وللأسف نحن نفتقدهما كليهما، كما يجب أن نعالج مشكلتنا الاقتصادية الآنية قبل أن نحلم باقتصاد المستقبل، لكن للأسف البوادر اليوم غير مشجعة”.

وأشار الدكتور حسن شري إلى أن سياسات لبنان الاقتصادية في مئويته الأولى كانت مرتبطة بدوره الذي يؤديه تجاه المنطقة والعالم ولا سيما دول الخليج النفطية، ودول شمال أفريقيا والدول الغربية. اليوم دخلت تشوهات كثيرة على هذا النموذج الاقتصادي منذ التسعينات مرورًا بالأزمة حتى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وهذا النموذج انتهى، وعلينا أن نفكر الآن بالمئوية الثانية. إن كنا نفكر باقتصاد مبني على ثلاثية الإنتاج والمهارات والتصدير، فيجب أن نقر بضرورة وجود دولة واثقة من شرعيتها، وقيادة قادرة على إدارة هذه المرحلة في الوقت نفسه.

العدالة الاجتماعية والمساواة

وتحدث في الجلسة الثانية، التي حملت عنوان “السياسات الاجتماعية في لبنان من اجل العدالة الاجتماعية والمساواة”، اديب نعمة، الخبير في شؤون التنمية والمستشار في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية، حيث اعتبر خلال حديثه أن “العدالة الاجتماعية لم تكن نتاجاً للنمو الاقتصادي كما ساد في المئوية الأولى رغم انها ترتبط بشكل او بآخر بالخيارات الاقتصادية الكلية لكنها لم تتحقق من خلال اعتماد السياسات الاجتماعية الملائمة والتي تنطلق من المقاربة الحقوقية وتهدف الى تحقيق العدالة والمساواة كما جاء في الدستور وكما نصت عليها التزامات لبنان الدولية في مجال حقوق الانسان والتنمية المستدامة.

اقترح نعمة محاكاة النموذج الاقتصادي والاجتماعي اللبناني باستخدام إعلان كوبنهاغن 1995 بشأن التنمية الاجتماعية وبرنامج عمله. كان الإعلان يمثل توافقًا فريدًا حول ثلاثة أهداف رئيسية للتنمية الاجتماعية، وهي القضاء على الفقر وتعزيز التوظيف الكامل والإسهام في التكافل الاجتماعي، ووضع نهج شامل لتحقيقها. كان يسلم أن التنمية الاجتماعية لا يمكن تحقيقها من خلال القطاعات الاجتماعية وحدها، ولا من خلال مبادرات جزئية. تتطلب الطريقة توجيه قيم وأهداف وأولويات نحو تعزيز التقدم الاجتماعي وتحسين جودة الحياة والرفاه للجميع. كما سعت إلى “وضع الناس في مركز التنمية من خلال ضمان المشاركة الكاملة للجميع”.

وفقًا لنعمة، لم يصمم لبنان سياساته الاجتماعية في الألفية الأولى، ولكنها استنسخ أعمدتها الرئيسية من عناوين سياسات العولمة الدولية. و حان الوقت لتحقيق الفوز على الفقر، وتحقيق هدف التوظيف الكامل، وتعزيز التكامل الاجتماعي كأهداف تفوق على التطوير. في الألفية الثانية، يحتاج لبنان إلى سياسات لخلق فرص عمل مع العمل على توزيع المال وإعادة تصميم سياسة الأجور والضرائب بشكل متساوي، وفقًا لقوله.

وبحسب نعمة إذا كان الإعلان عن كوبنهاغن سيكون خريطة طريق للألفية الثانية في لبنان، فإن الحوكمة والإدارة المسؤولة في جميع قطاعات المجتمع هي أسس لا غنى عنها لتحقيق التنمية المستدامة التي تركز على الأنسان. في سياق أكثر عملي، تعتبر التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية شرطًا أساسيًا لأي تنمية واحترام جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وبالتالي، تعتبر التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة مكونات تتبادل التأثير المتبادل لتحقيق تنمية مستدامة، والتي هي الإطار لتحقيق جودة حياة أفضل للجميع.

فيما صرّح إديب نعمة أنه حاول نقل طريقة مقاربة المسألة الاجتماعية التي جرت في قمة كوبنهاغن سنة ١٩٩٥، إلى الواقع اللبناني. وجوهر هذه القمة يكمن في أنه حتى نستطيع أن نتقدم يجب أن نضع الشروط المطلوبة لخلق البيئة المساعدة على تحقيق التنمية الاجتماعية، ومن هذه الشروط هناك شرط سياسي، واقتصادي، وقضائي، وتشريعي، وشرط السياسة الاجتماعية، التي يجب أن تكون مركبة، فصحيح أننا يجب أن نهتم بالسياسات القطاعية، لكن الأساس هو أن نتدخل على المستوى الكلي لنعيد دينامية صاعدة، وحراك اجتماعي صاعد، وتماسك وطني ومجتمعي داخل المجتمع اللبناني ككل، وهذا أمر قابل للتحقيق، لأن لدينا مواطنين شديدي النشاط، وقد برهنوا عن ذلك في 17 تشرين، كما أن لدينا منظمات مجتمع مدني شديدة الفعالية والنشاط، إن استطاعت أن تتوحد حول مشروع الدولة القوية والعادلة والممسكة بقرارها، فبإمكاننا أن ننهض بالمجتمع اللبناني بكل مستوياته.

 أما الدكتور أسامة صفا فشدّد على أن لبنان بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وهذا العقد يستحيل أن يقوم من دون مصالحة مجتمعية تتناول بالفعل كل مخلفات الماضي وكل المعوقات التي تمنع المجتمع من أن يتقدم إلى الأمام. كما أنه لا يمكن لعقد اجتماعي أن يقوم على أسس مستدامة وواضحة دون ردم الهوة الموجودة أساسًا داخل المجتمع اللبناني بين المكونات المختلفة، والتي أسست لها الاستقطابات والفرز والانقسامات الحاصلة والتي تتأثر أصلًا بالوضع السياسي. كما يجب أيضًا ترميم مؤسسات الدولة وقدراتها لتقوم بدورها في هذا العقد الاجتماعي. إذن نحن اليوم أمام انهيارات متعددة يجب معالجتها قبل الوصول إلى عقد اجتماعي مستدام ويحقق المواطنة والعدالة والمساواة الاجتماعية.