آلة التخوين مستمرة ولو على حساب البشر والحجر

ديسمبر 1, 2023

A-

A+

لا يزال لبنان منذ السابع من تشرين الأول، يتأرجح بين الدخول في الحرب الشاملة والالتزام بالمناوشات المحدودة عند الحدود الجنوبية مع إسرائيل. وككل قضية تشغل الرأي العام اللبناني، اختلفت الآراء بين اللبنانيين، ففئة أيدت مساندة المقاومة في فلسطين والدخول في الحرب الشاملة، أما فئة أخرى، طالبت حزب الله بوقف العمليات فورًا تحسبًا من الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة تعيد لبنان آلاف السنين إلى الوراء وتقضي على ما تبقى منه.

لا يختلف اثنان على أن اللبنانيين أجمعين، يعادون إسرائيل ويناصرون القضية الفلسطينية حتى النفس الأخير. فمن منّا يستطيع أن ينسى مجزرة قانا، وحرب تموز 2006، وكل البطش والإجرام والحقد الذي أظهره الإسرائيلي تجاه لبنان؟

من منّا يمكنه أن يرى مشاهد المجازر المروعة والقصف العشوائي والتعسف بحق المدنيين العزّل في غزة ولا يتعاطف معهم؟ بالطبع لا أحد. لكن ثمّة معضلة باتت تدق ناقوس الخطر في بلد كان بمصاف الدول الحضارية التي تتغنى بحرية التعبير والانفتاح والثقافة.

حملات التشهير والتخوين التي أصبحت وسيلة وحيدة عند البعض لمواجهة الرأي المعارض أو المختلف، باتت تشكل ظاهرة خطيرة قد تجرّد لبنان من الديمقراطية وتنسف آخر مزاياه. ففي لبنان، أضحى كل من يعارض الحرب، عميل. وكل من لا يوافق “الحزب” في رأيه أو في قرارات يتخذها بمفرده خائن. عندما نزل اللبنانيون إلى الشوارع سنة 2019، للمطالبة بلقمة عيشهم ووضع حد لمن نهب أموالهم وفرض عليهم أعباء مالية ضخمة، خوّنهم حزب الله.

وقبلها، سنة 2008، خوّن حزب الله اللبنانيين وقتّلهم ووصف قتلهم بالـ”يوم المجيد”. وعند كل استحقاق، كان حزب الله يخّير اللبنانيين بين الفراغ والوضع الهشّ مقابل إنجاز الاستحقاق بحسب ما تشتهي سفنه، أو يخوّنه.

وفي الآونة الأخيرة، وبالأخص بعد اندلاع الحرب بين اسرائيل وحماس، ارتفع منسوب التخوين مجدداً. الصحافية ليال الاختيار كانت محور الحملات التخوينية، بعد أن استضافت المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي أفيخاي أدرعي على قناة “العربية”، وذلك أثناء تأديتها واجبها المهني. ولم يقتصر البعض على التشهير بها وتهديدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي واتهامها بالعمالة، بل وصل الأمر الى حدّ صدور مذكرة بحث وتحرٍ بحقها من قبل النيابة العامة العسكرية في لبنان، إثر إخبار تقدم به مقربون من “حزب الله”. وردّت الاختيار على المذكرة الصادرة بحقها في منشور لها عبر منصة “إكس”، حيث كتبت: “ان هذه الخطوة هي اضطهاد سياسي سافر، بأسلوب القمع القضائي، وهي لا تمت الى الحق والحقيقة والعدالة بصلة، كما أن الذين يقفون خلفها يلحقون بأنفسهم العار الأخلاقي والوطني والانساني. فهم من نهب الدولة وأفلس الشعب وتنازل عن سيادة الوطن وثرواته. وها هم يغطون ارتكاباتهم بفبركات لقمع الحريات”.

واضافت: “لست خائفة لاني لبنانية من الان وحتى يوم القيامة وعربية من الان وحتى اخر نفس. ولن تمسوا حريتي ولا كرامتي ولا قناعاتي مهما فعلتم”.

ان هكذا فعل بحق صحافية تتقن مهنتها بحرفية وبتجرد حتى تستطيع ايصال الخبر الى الجمهور بالطريقة الأفضل، ليس منطقيا ومدان.

الاعلامية ديما صادق لم تسلم من حملات التشهير والتخوين أيضا، فاحدى حلقات برنامجها “حكي صادق”، التي تناولت فيها موضوع الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان والمقاومة بوجه العدوان الاسرائيلي، أثارت جدلا واسعا في البلد. الا أن صادق وضعت النقاط على الحروف وواجهت من هاجمها. وكتبت عبر “إكس: ‏”بعض الاعلاميين” سمحوا لنفسهم بالتعليق على مقطع منزوع السياق من حلقة كاملة لينهالوا علينا بسرد مبعثر لاحداث تاريخية دون ترابط، لو كانوا كلفوا نفسهم تطبيق الحد الادنى مما تطلبه المهنة وهو التأكد من المصدر و الاضطلاع على السياق لكانوا اكتشفوا ان كل ما ذكروه من الاحداث، لا بل اكثر بكثير مما ذكروا، تم توثيقه في الحلقة وبشكل علمي، اي ليس فقط سرد الحدث بل وضعه في سياقه التاريخي الصحيح و دراسة ابعاده. لمن يرغب بالحقيقة، بئس زمن اصبح “الاعلامي” يأخذ من تويتر مرجعاً”.

وإذا عدنا لموضوع الحرب، أسئلة جمّة تطرح نفسها تجعل العاقل يفكر فيها ألف مرّة ومرّة. كيف للبنان أن يدخل في حرب ضروس مع العدو الإسرائيلي، والحد الأدنى للأجور في البلد لا يتعدى الـ100 دولار أميركي؟ كيف للبنانيين أن يتحملوا أعباء مواجهة عسكرية قد تستمر لأشهر وهم ضاقوا ذرعًا بالأوضاع الاقتصادية الهشّة وبالأزمة التي وقعوا ضحيتها منذ 5 سنوات؟ كيف لبلد مؤسساته مشلولة والقطاع المصرفي فيه منهار وبنيته التحتية شبه معدومة واقتصاده قائم على الاستيراد والاستهلاك أن يتمكن من إدارة أزمة بهذه الحجم؟ كيف لوطن دمّر علاقاته بالدول العربية وحاول تغيير وجهه العربي وزعزع ثقة المجتمع الدولي به أن يتحمّل تبعات هكذا قرارات؟

ما عاشه اللبنانيون وعايشوه من مصاعب وحروب ودمار وثقافة موت على مرّ السنين كفيل بجعلهم يتجنبون الحرب لا بل يلعنونها ويعملون ليلَ نهارٍ لتفاديها؟

وفي الختام، لا يسعنا الا أن ندعو لأن تتحول الهدنة الحالية في غزة الى هدنة دائمة وتشغّل محركات السلام المستدام في المنطقة حتى ينعم الاستقرار على الشعوب وتُحل القضية الفلسطينية، ويُعاد الحق الى صاحبه.