


أزمة متعددة الأبعاد: الهوية اللبنانية بخطر؟
ديسمبر 6, 2023
A-
A+
تحت عنوان “الثقافة بوصفها معنى لبنان” انطلقت رابع مسارات مشروع “لبنان في قرنه الحادي والعشرين: رؤية مستقبلية” في الجامعة الأميركية في بيروت، في ندوة شارك فيها المؤلف والمخرج اللبناني هادي زكاك، ووسام سعادة، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، والكاتب الصحافي يوسف بزي، والدكتور حسن منيمنة، الأستاذ في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
كانت الجلسة تهدف إلى استكشاف التهديدات التي تواجه الهوية اللبنانية واقتراح نموذج ثقافي فريد للبنان وقيمه الأساسية التي أرست ثقافته على التسامح والانفتاح في ظل صعود الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط.
تمحور النقاش حول تأثير البيئة السياسية على الهوية الثقافية، والتحديات الناجمة عن الانخراط السياسي، وضرورة التوافق على خارطة طريق ورؤية ثقافية مشتركة تعيد للبنان مكانته المميزة على الخريطة الثقافية العربية، وكيف يمكن بناء نموذج يستند إلى هذه الأسس؟
يتأثر اللبنانيون قليلاً بالثقافات الأخرى، ويجدر بالذكر أن تاريخهم مليء بالصراعات المذهبية والصراعات السلطوية والتدخلات الخارجية وأعباء المنطقة المتقلبة، وعليه يواجه لبنان أزمة هوية تؤثر بشكل كبير على ثقافته.
نظرة سريعة على لغات لبنان وتقاليده وتاريخه وثقافة تقاسم السلطة تشير إلى أن الدوافع الرئيسية لهوية لبنان في الوقت الحالي قد تتعرض للتهديد أثناء تنقله نحو مستقبل متعدد المخاطر في الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط يُعتبر تقليدياً غير ممثل في دراسات الحدود على الرغم من أهمية الصراعات المتعلقة بالحدود أو الحدود الطائفية. حالة لبنان هي مثال جيد على تلك الخطوط الفاصلة المشيرة إلى بناء الهوية، وتظهر أهمية التفكير في العلاقات الاجتماعية والسياسية من حيث المساحة، مما يتطلب التفكير في الانقسامات الجسدية والرمزية في وقت واحد.
أزمة متعددة الأبعاد
وقد قادت الندوة الصحافية اللبنانية ديانا مقلد، التي افتتحت اللقاء بالقول “إن لبنان الذي بلغ مئويته الثانية يمرّ بأزمة متعددة الأبعاد غير مسبوقة في تاريخه الحديث، تهدّد وجوده وكيانه ومصيره، ولا تُستثنى ثقافته من هذا السقوط المريع”. واعتبرت “أنّ هناك حربًا تُشنّ راهنًا على الثقافة والحريات، تُدخل لبنان في زمن الانحطاط، بعد أن تمّت السيطرة على مفاصل البلد الأمنية والاقتصادية والسياسية، وتمّ تقويض مؤسساته، وأنّ الخطر على الثقافة يتجاوز بخطورته مسائل الانهيار المالي والاقتصادي وحتى الأمني على أهميتها، في منطقة تنهض فيها أنظمة الاستبداد والقمع”. وحذّرت مقلّد من “أن يخسر لبنان موقعه التاريخي بوصفه نافذة مفتوحة على مدارات الفكر والانفتاح والحداثة، فهذا أمر جلل يطيح بفكرة لبنان بصفته موئلًا تاريخيًّا للثقافة والحرية في المنطقة.”
السينما كنتاج توثيقي
ثمّ تحدّث هادي زكاك، فأشار إلى “أنّ السينما تشكّل ذاكرة للماضي وواجهة على المستقبل، من حيث رسم الأحداث في لبنان كيف كانت في الماضي وكيف ستكون في الحاضر”.
وذكّرَ أن “السينما اختلفت مع كل فترة زمنية، ففي حقبة الخمسينات والستينات كان الانتقال من مرحلة أكثر محافظة إلى مرحلة أكثر انفتاحًا، ومن صورة لبنان القرية إلى الانفتاح على المدينة وما فيها من تنوّعات، وكان لبنان مقصدًا للممثلين العرب والأجانب، وكان الممثل العربي يأتي بحثًا عن الحبّ والرومانسية، أما الممثل الأجنبي فكان يعدّ لبنان مكانًا لعبور الأموال. فيما ركّزت فترة ما بعد الحرب الأهلية على المعارك وأسبابها، وكيفية إعفاء أمراء الحرب مما ارتكبوه”. وعن موضوع الرقابة على السينما في لبنان، قال زكاك “إنها لا تزال مطاطة بين التشدّد والانفتاح، وهي متعددة الأشكال بين الديني والسياسي والفردي والمجتمعي”.
العودة الى المتوسطية
أمّا وسام سعادة فصرّح “أنّ النزعة الفينيقية ضاعت بين من أهدر فرصتها وبين من مجّدها، وكلا التصرفين أضرّ بفكرة المتوسطية، فهذه النزعة تجدّد الطريق للتقاطع والتبلور في المتوسطية، ونحن في اللحظة الحالية في لبنان يمكننا، عند السؤال عن المستقبل الثقافي لبلدنا، أن نجيب بأنّ الحاجة للمتوسط اليوم هي حاجة للتصالح مع الخريطتَين البحرية والبرية للبنان.”
قال سعادة إن البحر الأبيض المتوسط جلب إلى لبنان مزيجًا معقدًا من الأفكار والمشاعر والصور والثقافات وطرق الحياة، الذي نمى لقرون وما زال محافظًا عليه في هذا “البحر (ليس المحيط) بين الأراضي”؛ (الذي كان يُعرف باسم “ماري نوستروم” من قبل الرومان)، والذي يمكن أن يُعبّر عنه بهذه الطريقة إذا فهمنا “نوستروم” بمعنى مختلف: كمرجع إلينا كبشر.
تم فهم قيم البحر الأبيض المتوسط للبنان على أنها نقطة انطلاق ووصول لبناء مجتمع متعدد الثقافات. سعادة قال إن لبنان ينتمي من حيث التراث إلى نفس الحضارة الواسعة للبحر الأبيض المتوسط التي تضم اليونان وإيطاليا وفرنسا؛ وأنه يحتاج إلى دعم استيعاب الثقافة الأوروبية الحديثة.
بشكل مثير للاهتمام، قال سعادة أن اللبنانيين كان عليهم أن يختاروا بين الانتماء إلى ثقافة تنتمي إلى البحر الأبيض المتوسط – التي كانت قيمها قوانين الرومان وفلسفة اليونان – أو النظر إلى الشرق. و استعان بتشبيه إلى اكتشاف قبرين : “هيرام” في بيبلوس و”توت عنخ آمون” في مصر. وقال إن هذين الاكتشافين هما مراكز رئيسية بين اتجاهين في المجتمع يقودان المجالات الثقافية للشرق الأوسط.
وفي إشارة إلى كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر” (1938) الذي أكد على التراث المشترك لحضارة البحر الأبيض المتوسط وارتباط مصر بالثقافة الأوروبية أكثر من علاقتها بالشرق الأوسط، قال إن لبنان اليوم يسلك مسارًا مشابهًا، وهو تقريب ثقافة البحر الأبيض المتوسط مع القيم الشرقية..
جبل لبنان وبيروت منبع للنهضة العربية
فيما قدّم يوسف بزي في مداخلته لمحة تاريخية ذكّر فيها بأنّ “جبل لبنان كان يتقدم بإيقاع مختلف، ويطلب استقلالية حقوقية وسياسية وثقافية عن العالم العثماني، وأنّ جبل لبنان وبيروت كانا منبعًا للنهضة العربية، ومقرًّا لأولى الجامعات الحديثة، وللطباعة والترجمة والصحف والتعليم الحديث. وعلى هذا الأساس قامت جمهورية اختارت مبدأين أساسيّين: الديموقراطية والاقتصاد الحر.” واعتبر أنه “لم يبقَ من الديموقراطية إلا حفنة ديموقراطيين يائسين، ولم يبقَ من الاقتصاد الحر سوى المساحة المظلمة التي تنتعش فيها أسوأ أنواع المافيا، وأنّموت الحرية في لبنان وفشل محاولات إعادة بناء الدولة، كانا ثمنًا دفعناه طوعًا لنتجنب تجدّد الحرب الأهلية.”
سقوط العقد الاجتماعي
وكان ختام الندوة مع الدكتور حسن منيمنة الذي سلّط الضوء على أهمية الأسس البنوية الثلاثة، وهي الإعلام والتعليم والتوثيق، مؤكّدًا “أنّ العلاقة مأزومة بين الدولة والمجتمع، وأنّ مسؤولية تعزيز البنية التحتية لا نستطيع أن نعتمد فيها على الدولة، فالمجتمع والدولة في لبنان لم يصلا بعد إلى عقد اجتماعي يسمح للدولة بأن تلتزم بهذه المؤسسات، كما أنه ليس أمرًا إيجابيًّا أن نلزّم الدولة كثيرًا من هذه المؤسسات. إذن لا بد من دفع الزخم الاجتماعي، ولا بد من حركة على مستوى المجتمع اللبناني والمبادرة الخاصة والمبادرة الفردية والقطاع الخاص، بناء على الطبيعة المركبة والمتداخلة والفائضة للهوية اللبنانية”.
وأضاف، “هذا الأمر مهم حتى نسمح بتعدديات وليس بتعددية واحدة وإبراز كل هذه الأمور، وصولًا في نهاية المطاف، إن حصلت هذه الدورة التفاعلية، إلى أجواء من الحرية تسمح بالطرح المتعارض من جهة، وبالشروع بأمر مهم جدًّا تخلفنا عنه بعد الحرب وهو المصالحة والمصارحة.”
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي