أرض الهويّات المتناقضة: لماذا نكره لبنان؟

ديسمبر 11, 2023

A-

A+

نحن لا نحبّ لبنان، وهذا اللاحبّ تعلّمناه منذ الطفولة، واكتسبناه في صفوفنا المدرسيّة.

من يذكر منكم كيف كانت حصّة الجغرافيا؟ كم مرّة طلبت منّا المعلّمة أن نحدّق بالنقطة الصغيرة على الخريطة وأخبرتنا أنها لبنان، ما زال المشهد في رأسي، كلّ بلدان العالم كتب اسمها على قطعتها من الأرض إلا لبنان، كتب “لبنان” على الجزء المقابل له من البحر الأبيض المتوسط.

لقد زرع في نفوسنا منذ الصغر أننا صغار، لا أحد يرانا وليس من حقنا أن نظهر للعالم.

من يعيش في لبنان يدرك أنّ المشاهد الجميلة التي يراها في الشّمال والجنوب والجبل نربطها بالخارج، فنقول مثلاً “ما أحلاه هالمنظر ما كأنك بلبنان”.

من زرع فينا صورة لبنان القمامة والحرب والدمار والخوف والدّم، ومن قسّمنا طائفيّاً في الحروب، ثمّ جمعنا في الانتخابات، ثمّ فرّقنا في السياسة الخارجيّة، هو ذاته استطاع أن يستلم السّلطة جيلاً بعد جيل، مدمراً بذلك كلّ فكرةٍ أو مبادرةٍ للحياة.

لماذا يقال عن لبنان سويسرا الشّرق؟ لماذا نرفض كون لبنان لبنان؟ بما فيه من كلّ شيء، لماذا نرفض الاعتراف بهذه الهوية؟ أو لماذا نشعر بالخجل حيالها؟ لماذا نربطه بكلّ شيء وأيّ شيء؟ بمن يسوى ومن لا يسوى.

من يزور أنفة أو البترون يربطهما باليونان، لماذا؟ ما هذا الإنكار لهوية لبنان الفريدة؟

لماذا نراه كلّ شيء سوى أنه وطن؟ نراه مجموعة من المشاهد، العادات، الصراعات، الأفكار، المدن، الأزقّة، وكلّ ما هو دون ذلك…

نحن لا نحترم بلدنا لأنّ انتماءاتنا ليست للبنان الوطن، بل لمجموعات داخل لبنان، ولا يهمّ ما هي طبيعة هذه المجموعات أكانت طائفيّة، دينيّة، سياسيّة، مناطقيّة، فكريّة، ثقافيّة. ننتمي لكلّ شيء إلا للبنان.

لنعطي مثال، طالبٌ سعوديّ يعيش مع طالب إيرانيّ ومعهم طالبٌ فرنسيّ، ثلاثتهم يعيشون في بيتٍ واحد، في مدينةٍ واحدة، وما يدفعهم للعيش سوياً في بيتٍ واحد، هو أنهم لم يجدوا غير هذا البيت ليعيشون به، وبالرغم من أنهم على خلافٍ دائم، والجوّ داخل منزلهم مشحونٌ دائماً، وآثار المشكلات والخبيط بارزةٌ على ملامح المنزل من خلال الزجاج المنكسر وقبضات الأبواب المنخلعة، إلا أنهم مضطرون للبقاء معاً، لأنه ما من بيتٍ آخر استقبلهم، وما زالت حتّى اليوم غرفهم مقسومة، كلّ متقوقعٌ في غرفته، وبين الحين والآخر يختلفون ويأتوا أصحاب المنازل المجاورة لتهدئة الجوّ.

هذا هو لبنان ..

مجموعات منفصلة، تعيش على الأرض اللبنانيّة، تأكل من خير هذا البلد وتحمل هويته ولكنها لا تشعر بالانتماء له، تحبّ بلداناً أخرى وتقدّم أرواحها فداءً لها.

هذا اللاانتماء جعل شخصيّة اللبنانيّ مختلطة، ليس لدينا شخصيّة كالشرقيّ والغربيّ، نحن خليط منهما، لغتنا مقسّمة مناطقيّاً، الشّمال جزء منه تبنّى السّوريّة، وفي الجنوب تربّوا فارسيّاً وتكلّموا فلسطينيّاً، وفي المناسبات الدينيّة تظهر العراقيّة، وفي وسط هذا البلد “الكوكتيل” تختلط الفرنسيّة بالانكليزيّة كدلالةٍ على التّحضّر.

طال الشّعر وقصر، طالت اللحية وقصرت، طالت العباءة وقصرت، حلق في الأذن وآخر في الصّرة، وآخر حلّل قتل كليهما، بعضهم يلبس والآخر يشلح، وبعضهم لا يهتمّ بما يحصل، واحدهم يبكي والآخر يضحك ولا فرق بينهما…

ولعلّ المضحك حقّاً هو مطالبتنا الدائمة بتمسكنا بهويتنا المنفردة عربيّاً.

أيّ هوية يا مجموعة من الضائعين؟ هوية كلّ شيء والكثير من أيّ شيء؟ ألم نلاحظ بعد أننا جميعنا هاجرنا؟ ومن لم يهاجر بعض يستميت على الهجرة؟

نحن مجموعة من الخائفين، الضائعين، المتمسكين باللاشيء وقد تخلينا عن كلّ شيء.