كيف يمكن إعادة بناء اقتصاد منتج للبنان؟
ديسمبر 13, 2023
A-
A+
كيف يمكن إعادة بناء اقتصاد منتج للبنان الجديد الذي اختار التخلف عن السداد قسرياً على ديون سيادية بقيمة 32 مليار دولار أمريكي، والسماح للحكومة بتجنب التفاوض مع مستثمريها حول ديونها، في حين أن المودعين غير قادرين على الوصول إلى أموالهم المودعة في البنوك التجارية. هل يمكن الإجابة على الكثير من التساؤلات حول “إلى أين نتجه في القرن القادم”، وكيفية إعادة بناء الاقتصاد الإنتاجي، ولبنان يعاني من انهيار في تقديم الخدمات العامة، مع تراجع الليرة بنسبة 98٪ من قيمتها النقدية في أعلى معدل تضخم ثلاثي الأرقام. المئوية الأولى انتهت في غياب أي تحفيز للقطاعات الإنتاجية وأي حوار سياسي أو اقتصادي حولها فهل يمكن للمئوية الثانية أن تقدم البديل؟ وكان المرجو من فعاليات مشروع “لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية”، التي انعقدت في الجامعة الأميركية في بيروت الندوة الثانية من مسار الاقتصاد والاجتماع، تحت عنوان “إعادة بناء اقتصاد منتج للبنان الجديد”، الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة بظل غياب تام لأي رؤية اقتصادية واضحة.
سياسات عامة تعزز التنافسية
تضمنت الندوة ثلاث جلسات متتالية بإدارة مديرة الأبحاث الاقتصادية للشرق الأوسط في مصرف جفريز، علياء مبيّض، التي افتتحت الندوة بالتأكيد أنّ “أيّ اقتصاد منتج يُبنى على ثلاثة مقوّمات: أولها الموارد المتاحة، ونعني بها رأس المال البشري والمالي والبنى التحتية، وقد خسرنا بسبب الأزمة جزءًا كبيرًا من مدخرات اللبنانيين، وهاجر عدد كبير من الشبّان ولكننا ما زلنا نملك مخزونًا كبيرًا من اليد العاملة المنافسة التي نستطيع أن نعتمد عليها، لكنّ البنى التحتية قد أصبحت للأسف مترهّلة، وثانيها وجود سياسات عامّة تعزّز التنافسية لتجعل من الاقتصاد المنتج مستقطبًا للاستثمار الخاص الذي يعاني في خلال السنوات العشرين الماضية من تراجع مستمر في لبنان، وهذه السياسات هي ليست اقتصادية فحسب، بل هي أيضًا في مجالات البنى التحتية والطاقة ومنظومة الأمن التي ستؤسّس لمناخ مشجّع على الاستثمار، وثالث هذه المقومات هو قدرتنا على التأقلم مع المتغيّرات العالمية والإقليمية التي من المفترض أن تكون قوية بفعل الاغتراب اللبناني الذي لا يملك فقط رأس المال البشري والمالي المهم، ولكنه يملك أيضًا شبكة العلاقات التي يستطيع أن يستثمرها لإعادة رفد عملية التحوّل من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج. هذه المقومات الثلاثة هي اليوم غير مستغلّة بسبب استفحال الأزمة ورفض معالجتها وغياب الرؤية لدى المنظومة السياسية المتحكمة بالبلد.”
الإقتصاد المنتج والاقتصاد الريعي
وقد دار النقاش في الجلسة الأولى حول مقوّمات الاقتصاد المنتج واحتياجاته، حيث تحدث الاقتصاديّ في البنك الدولي، الدكتور وائل منصور، الذي تطرّق إلى الفرق ما بين الاقتصاد المنتج والاقتصاد الريعي. “فالاقتصاد الريعي هو الذي يعتمد على الدخل الزائد الذي يُحقّق دون بذل جهد أو تكلفة إنتاج إضافية، وينشأ عادة عند وجود حالات من الاحتكار أو الامتيازات الممنوحة لفئة دون أخرى، بينما الاقتصاد الإنتاجي هو اقتصاد يركّز على إنتاج السلع والخدمات بكفاءة وفعالية ويتميّز بأنه يحقّق النمو المستدام ويخلق فرص العمل ويعتمد على الابتكار والتطوّر التكنولوجي والمهارات، والأهم أنه يعتمد على المنافسة.
تعتقد آراء مختلفة أن قانون المنافسة يمكن أن يُنظر إليه على أنه مجموعة واسعة من الأدوات السياسية الضرورية لخلق اقتصاد سوق فعّال، ومع ذلك، فإن إحداث أفضل بيئة أعمال وقانون المنافسة لا يمكن اعتبارهما بشكل معزول لخلق النمو. السرد الذي يمكن أن تضمنه قوانين التجارة الحديثة أن الأسواق ستعمل بفعالية يجب أن يؤكد على أن مجموعة من السياسات الحكومية الأخرى تتوافق مع المبادئ الأساسية للسوق. يجب أن تكون السياسات الحكومية سياسة التجارة والسياسة الصناعية والخصخصة والتخفيف من القوانين والسياسة الإقليمية والاجتماعية جميعها مجرى في موافقة مع آلية السوق لكي يعمل الاقتصاد بأقصى كفاءة ممكنة.
في القرن الأول من تأسيسها، كانت لبنان اقتصادًا يعتمد على الريع – هل يمكن أن يحدث تحول إلى نموذج إنتاجي في القرن المقبل؟
من الصحيح أن الاقتصاد الإنتاجي يؤكد على ضرورة تقليل تكلفة القيام بالأعمال التجارية مع تحسين البيئة العامة للأعمال التي ستؤدي إلى زيادة مستويات تنافسية لبنان. خلال القرن الماضي، اعتمد لبنان على نموذج محكوم بالريع الذي اعتمد على دخل فائض تم توليده بدون جهد إضافي أو تكاليف إنتاج. يحدث هذا عادةً عندما يكون هناك حالات من الاحتكار أو الأوليغارشية أو الامتيازات التي يتم منحها لمجموعة معينة على حساب مجموعة أخرى.
وقال منصور نحن إن اعتبرنا أن النموذج الريعي الذي كان موجودًا في لبنان قد انتهى، ومن أجل بناء اقتصاد تنافسي منتج، ولأن السوق اللبنانية صغيرة، نحن بحاجة إلى تصدير هذه السلع والخدمات وليس تصدير العمالة واليد العاملة الماهرة، لذا يجب أن نضع لأنفسنا عدّة أهداف، منها إعادة حجم الاقتصاد إلى ما كان عليه في العام 2018 أي 55 مليار دولار، بعد أن تراجع في الأزمة إلى أقل من النصف أي 23 مليار دولار وهو الرقم الذي كان عليه الاقتصاد في العام 2006، أي بفارق 17 عامًا، لذا يجب أن يكون الهدف إعادة حجم الاقتصاد اللبناني إلى ما قبل الأزمة في العام 2040، وأن يحقق نسب نمو توازي نسب النمو في الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى، وذلك على ركائز متينة متمثّلة بإنتاج وتصدير أكثر واستهلاك أقل.” كما أشار منصور إلى “أننا إن أردنا أن نخلق هذا الاقتصاد المنتج نحن بحاجة إلى سياسة مالية تحفز الاستثمار وتضع ضريبة على الريع أعلى من الضريبة على الأجر، وإلى إنفاق حكومي مركّز على قطاعات تساعد الإنتاج مثل الكهرباء والإنترنت والتعليم، وإلى سياسة نقدية تنهي الاحتكارات المصرفية لتمويل الاقتصاد وتدخل لاعبين جدد إلى السوق اللبنانية وتضع حدًّا لتهوّر مصرف لبنان بدعم قطاعات وسياسات نقدية أوصلتنا إلى الإفلاس، وإلى إعادة النظر في الاتفاقات التجارية الخارجية وتفعيل الاتفاقات التي تشمل القطاع الخدماتي، وإلى بيئة أعمال تنافسية عبر إلغاء كل القوانين الاحتكارية مثل قانون الوكالات الحصرية وسن قوانين لمكافحة الاحتكار مع مؤسسات رقابية ذات كفاءة لتطبيقها مع هيئات ناظمة لإدارة القطاعات وتحفيز القطاع الخاص للدخول ومشاركة الدولة في الاستثمار، ودعم الشركات الناشئة. كل هذا يمكن أن يتحقق في لبنان بوجود الإرادة السياسية والتغيير السياسي والمؤسسات القادرة على التطبيق، وبذلك نستطيع أن نعيد الاقتصاد إلى سابق عهده مع نمو مستدام وبطريقة متينة.”
الصناعة الوطنية
نموذج نمو آخر هو القطاع الصناعي الذي شهد العديد من قصص النجاح في التسعينيات. هل يمكن لهذا القطاع أن يخلق تأثير رافع للاقتصاد وبالتالي يكون فائزًا في سباق التنمية؟
المطلوب تصميم استراتيجية شاملة لتطوير الصناعة وهو أمر أساسي للقرن المقبل. مثل هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل التدريب المهني، والتوزيع الجغرافي للمصانع لتناسب الاحتياجات الصناعية، ودمج جميع القطاعات الاقتصادية، وتشجيع التفاعل الأقرب بين القطاع الصناعي ومؤسسات البحث. لن يتحقق قطاع صناعي قابل للتطبيق في لبنان إذا لم يتقدم الصناعة وفقًا للتطورات التكنولوجية العالمية الحالية وضمانات أسواق البيع.
هذا ما عرضته الجلسة الثانية حول الصناعة الوطنية، وكان المتحدث فيها بول أبي نصر، عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين اللبنانيين، الذي تناول موضوع البيئة الحاضنة “التي تُعَدّ أساسًا في نظامنا الليبرالي، والتي يجب أن تسهل الطريق للشركات والقطاع الخاص لينطلق ويبدأ بالنمو من تلقاء نفسه.
لذا يجب أن نتبنى طروحات تناسب طبيعة لبنان وخاصة في ما يتعلّق باللامركزية الإنتاجية والصناعية. كذلك يجب أن نجد صلة الوصل بين الإبداع الفردي والقطاع الصناعي لكي يعملا بتناغم وتكامل لتصل المنتجات والأصناف الإبداعية إلى السوق. من هنا يجب التركيز على كيفية خلق البيئة الحاضنة على المستوى التربوي، وعلى مستوى البنية التحتية، التي يجب أن تكون في الوقت نفسه مطابقة وملائمة لطبيعة لبنان، فنحن لا نستطيع أن ننشئ شركات كهرباء ومصانع كبيرة، لأن طبيعة لبنان السياسية والجغرافية غير مناسبة لذلك، لذا نحن بحاجة إلى نظام لامركزي بامتياز كي يكون النمو منفضلًا وكي يكون الحل متجزّئًا. هذه هي طبيعة لبنان التي يجب أن نسير معها لا ضدّها. أي أنّنا يجب أن نوجد الحلول حتى وإن لم تكن أفضل الحلول.”
بين الغذاء والدواء
وكانت الجلسة الأخيرة حول الصناعة الزراعية بين الغذاء والدواء، فتحدث فيها نزار غانم، مدير الأبحاث في مؤسسة Triangle، وشدّد على “أن الاقتصاد الزراعي هو جزء مهم من الاقتصاد اللبناني، فنحن نستطيع التصدير إلى دول عديدة كما أنّ هناك إمكانية هائلة لتحسين هذا القطاع. المشكلة اليوم تكمن في أنّ استثمار الدولة في الزراعة هو فقط 0.5 بالمئة من الموازنة العامة، لذا نحن بحاجة اليوم إلى إصلاحات كبيرة في سوق الأدوية مثلًا وكذلك كل ما يخص القطاع الزراعي في لبنان يجب أن يتحسن، كما يجب تفكيك كل الكارتيلات في هذا المجال، وأن تكون للبنان سياسة تجارية واضحة من أجل تحسين منتجاته للدخول إلى الأسواق الأوروبية أو الأميركية أو غيرها، لذا فإنه من غير المقبول ألّا يكون هناك تحسين في الجودة العامة وضبط للمرافئ وإصلاح شامل للتعاونيات الزراعية غير القادرة حاليًّا على تحسين الإنتاج المطلوب، وغيرها الكثير من الأمور؛ إذ ليس هناك جدية اليوم عند الدولة اليوم لتطوير هذا القطاع، علمًا القطاع الزراعي اليوم يملك إمكانات كبيرة تضاهي تلك الموجودة في إيطاليا أو تركيا على سبيل المثال”.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي