تجارة التوقعات بين الوظيفيّة والتوظيف

يناير 2, 2024

A-

A+

يربط حبل سري سوق التنجيم والتوقعات والأبراج والعادات الشبيهة الّتي ترافق بداية احتفالات رأس السنة في لبنان بحالة عدم الاستقرار السياسي، الأمني والاقتصادي.

وعلى غرار العلاقة الطرديّة بين قيمة العملة المحليّة والثقة فيها، يزدهر الطلب على مقدّمي هذا المضمون مع تصاعد وتيرة عدم الاستقرار الّتي تعمّم بشكلٍ تلقائي حالة من الريبة في المجتمع. بحيث يبحث المجتمع، مدفوعاً بالرغبة الإنسانيّة الدائمة للسيطرة على المصير، عن إجابات للخوف الطبيعي من المجهول.

وبعيداً عن سذاجة نظريّات المؤامرة الّتي تلف هذه الظاهرة، قاربت عدّة حقول علميّة “اقتصاد المجهول”، بدءً بعلم الاجتماع ووصولاً الى دراسات الأمن (security studies).

“الوظيفيّة” ردّاً على “العلمويّة” (scientisme)

يمكن تفسير اللّجوء إلى هذا التعبير المجتمعيّ عن الخوف في علم الاجتماع من خلال مدرسة الوظيفيّة (Fonctionnalisme). وتشكل فكرة الوظيفة الاجتماعيّة -التي تنسب إليها تسمية هذا التيار- إحدى الركائز الفكريّة الأساسيّة لهذه المدرسة. إذ تعتبر أن كلّ العادات والتقاليد تجسّد وظيفة ما ضمن إطارها المجتمعي.

ينكب مؤسس “الوظيفيّة” Bronisław Malinowski بكتابه « Les argonautes du pacifique occidentale » (1922)، على دراسة جزر Trobriand الّتي يمارس سكّانها “السحر” بشكل مكثّف في يوميّاتهم. ويشرح الباحث المذكور أهمّيّة وضع العبارات السحريّة الّتي يستخدمها السكان المحليّين تحت المجهر المناسب: إذ يستخدم سكان الجزيرة هذه العبارات بسياقات يخيّم عليها الغموض والمجهول (incertitude). وبالتالي للسحر وظيفته في مجتمع Trobriand، وهي إضفاء شعور من الطمأنينة لمستخدميه.

انطلاقاً من هذه الوظيفة الاجتماعيّة (إضفاء شعور الطمأنينة)، يؤكّد Malinowski أن السحر لا يقتصر على المجتمعات التقليديّة فقط لأن الطمأنينة ضروريّة لجميع المجتمعات وبالتّالي من الخطأ الاعتقاد أنّ ما يسمى بالمجتمعات الحديثة خالية من السحر. إذ تمارس شتّى المجتمعات طقوس أو ممارسات تهدف لترويض الخوف من المجهول. ويؤكد هذه الفكرة Paul Blumberg بكتابه « Magic in the modern world » أو “السحر في العالم الحديث”.

يعيب عالم الأنثروبولوجيا Jean Pouillon بكتابه “Le Cru et le Su” على نظرائه الغربيين ميولهم الى نسب الممارسات الغريبة بالنسبة لهم في ما يسمى بالمجتمعات التقليديّة للدين أو المعتقدات. إذ يعتبر Pouillon أن التحيّز المعرفي أساس الـ”ethnocentrisme” (أي الحكم على الحضارات الأخرى بناءً على قيم الحضارة الخاصة بالباحث). ساهمت هذه النزعة العرقية في تبرير هيمنة الحضارة الغربيّة على النظام العالمي لاعتبارها أن للحضارات الأخرى درجة من الوعي ومن التطور الفكري أدنى منها. “غير المؤمن يعتقد أنه يعلم، لكنه لا يعلم أنه يؤمن” « L’incroyant croit qu’il sait, il ne sait pas qu’il croit ». في الواقع، لا يربط المؤمن هذه الممارسات بمعتقده، لأنها بالنسبة له جانب من جوانب الواقع: فالحقيقة البشريّة نسبيّة.

من الهلع إلى مخاوف منطقيّة… التوقّعات باباً للسيطرة الاجتماعيّة

تناول مؤرّخ الديانات الغربيّة Jean Delumeau مسألة الخوف والشعور بعدم الأمان في كتبه “La peur en occident”، “Rassurer et protéger”، و”Le péché et la peur”.

ويعتبر Delumeau أنّ الأمان هو استجابة سياسية، خطابية، وعملية في الوقت نفسه، من قبل المؤسسات السياسية و/أو الدينية للأُخْرَوِيَّة (دراسات نهاية الأشياء كالموت) والهلع الاجتماعي. ويُقصد هنا الخوف الشديد دون معرفة موضوعه. وتستجيب السلطات لهذه الحالة من خلال خلق المخاوف، بحيث تحولها إلى خوفٍ موضوعي، ما يتيح لها رسم وتطبيق السياسات العامّة الأمنية.

حمل القرن الرابع عشر، آثار مميتة هائلة على المجتمع الغربي مع تكاثر الكوارث الطبيعية مثل الطاعون الذي تسبب بمقتل ثلث السكان حينها، إلى الحروب الدينيّة الّتي أعقبت “الإصلاح البروتستانتي”. إن مجموع كل هذه الأحداث أنتج موجة من الهلع الجماعي.

عملت الدول والكنائس الغربية آنذاك على تحويل هذا الرعب من فكرة نهاية العالم إلى مخاوف محدّدة، أي تحويل شعورًا بعدم الأمان التام إلى شعور بعدم الأمان النسبي. وشكّل هذا الوضع فرصة للكنائس لإعادة تأكيد السيطرة الاجتماعيّة في القرنين السادس والسابع عشر، إذ كان رجال الدين هم من صاغوا المخاوف وروّضوها أيضًا.

أمّا في القرن الحالي، فإن الأزمات الدوليّة تتزايد، بدءًا من وباء كورونا وصولاً إلى الحروب عالية الكثافة (High-intensity warfare، وفقًا لتصنيف Martin van Creveld)، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يُسبب نسبة وفيات تقارن بتلك التي سُجلت خلال الحرب العالميّة الأولى، وحتى حرب غزة التي يُعتبرها خبراء أحد أخطر الأحداث في القرن الحالي من حيث تأثيرها على المدنيين.

أمّا محليّاً، يرافق الوضع الاقتصادي الهش مخاطر أمنيّة داهمة بين أحداث داخليّة كحادثة الكحالة وخارجيّة جنوباً.

كلّها عوامل تدفع المواطن اللبناني للبحث عن إجابات لمجهول يتربّص بمصيره فيتّجه نحو بائعيها… فهل يجدها أم يصطدم بأجندات مبطّنة؟