آمالٌ كاذبة بالعودة: غُرستُ في أرضٍ لن أزهِّر فيها

مارس 26, 2024

A-

A+

قالت صديقتي: أتعلمين؟ عندما أصلّي اليوم بخشوع أعجز عن احتواء دموعي، فتنهمر بدون سبب. 

إنّه الله.. يحضننا في غربتنا ونلجأ إليه كنور يضيء دربنا ويشدنا إليه فنمشي مستقيمي القامة في عتمة الحياة. حب الله يزهِرُ داخلنا هنا بشكل مختلف، يضيء روحنا فتفيض أمانًا وسلام. في أيام الوحدة نشكي إليه همّ كل دقيقة، فهو أقرب إلينا من أن نحكي كل ما في بالنا ومع الوقت تقلّ كلماتنا المنطوقة ونصبح بقية من جبل جليدي وسط المحيط نطفو على سطح الماء صامتين وفي داخلنا وجع غربةٍ قاتل. 

أجلس مع نفسي أوقاتًا عديدة وأستنكر، لم أخُض تجربة السفر، لا أنتمي لأيّ مكان، لا أسكنُ في أحضان قريتي ولا أذكر صياح الديك أو مأمأة الخرفان.. سقطتُ ضحية لأسباب لا أذكرُها، أذكر أنني صُلبتُ أمام جهاز تصوير ألفظ إسمي الثلاثي ومعلوماتي الشخصية لآخذ ورقة في يدي أعود فيها إلى أمي وأبي وأقول سأرحل بعد عدة أيام. أعيش على أمل أن الغد أفضل، أنتظر شروق الشمس بعد الشتاء لأبتسم، تصعقني الأخبار السيئة مهما كانت بسيطة وأعيش يومي كاملًا كأن في معدتي كرة حديدية. سعيت لمصيري هذا مغمضة العينين، أردتُهُ بكامل جوارحي لكي أخوض هذه المعركة التي ظننت أنّها كغيرها من ساحات الحروب. لكنّني لم أعلم أنّ الأمهات لا يرافقوننا إلى ساحة الحرب وأنني لست بالمرأة القوية التي ظننت، لا أريد أن أكونها، وكلّا هذه الحياة لا تستحق كل هذا.

نتكئ في غربتنا على آمالٍ كاذبة بالعودة، على حنينٍ بسيطٍ ربما لقضاء عطلة بسيطة في بلادنا والعودة إلى كوننا غرباء. لم يخبرنا أحدٌ عن آلام الغربة فهو عادةً لا يتبع بروتوكولًا معيّنًا لا يشفيه بعض من دواء، ربما لأنّه لا يوصَف. نتعايش مع حياة لا تنتمي إلينا أبدًا ولو بعد أعوامٍ عديدة، ستبقى خيوط الشمس باردة، وكأنّ الشمس في بلاد الأرز تلائم عظامنا أكثر. تتوالى الفصول هنا وأنظر إلى الحديقة المقابلة لشباكي، أحسد شجرة عجوز تمتد أغصانها كل عام في نفس المكان يغطيها الثلج مرة والأوراق الخضراء مرة أخرى. قابعة في مكان واحد تنغرس جذورها أكثر فأكثر كل عام، فهذه أوراقها الثبوتية، لا تحتاج إلى جواز سفر، أو صورة لها في هذا المكان، لا تعير جذوعها اهتمامًا للعواصف تصمد في ظروف قاسية وتزهر من جديد فكيف نرحل نحن عن أرضنا؟

يُنذرني فنجان القهوة المتوفى على مكتبي منذ يومين.. يتشقق التّفل المتبقي وينذرني بمرور الوقت، بجفاف الأيام، بالبسمات الميتة والدموع المتبخرة، يسطع من فسوخه ضوء لا أدري إن كان وجوب شروق الشمس أم أنه فسحة الأمل الوهمية التي أنشد. نادرًا ما أغسله فور انتهاء القهوة وكأنّ وجودهُ سيملأ على روحي المكان، سيذكّرني برائحة الزعتر في الربيع، وخبز الصاج الذي تعدّه أمي صباحًا. تتآكل الأيّام وتتربّصُ في ذهني الذكريات، حتى اذا شممتُ رائحةً مألوفةً تُعيدني إلى طفلةٍ ذات خمس سنوات تركُضُ في أرضٍ موحلة تسرقُ النرجس في الشتاء. لا تبالي اذا نسيت إقفال باب الشقّة قبل الذهاب إلى حروب يوميّة تنهشُ ما تبقّى من راحة البال. 

تتحرّك الحياة في جميع الاتجاهات كأي يومٍ آخر، وأرقد مع أفكاري خلف زجاج شباكي، الذي يفصل بين شحوب أيامي ولؤم الحياة حين تمضي غير آبهة بي من الجهة الأخرى. رحلنا تاركين الأرض التي ستحتوي بقايانا بعد موتنا، بعيدين كل البعد عنها، سيعاني أحباؤنا لنقلنا إليها عبر المحيطات. ستتأمّلني الشجرةُ المطلّة على شباكي بسخرية وأنا وحيدة، بعيدة، مكبّلةٌ في أرضٍ وإن غُرِستُ فيها من جديد لن أزُهر كما حالها. أمّا هي فستموتُ في مكانها وتدفنها الأيام بكل فخرٍ بعد زمن طويل، ويغطيها الثلج واخضرار الربيع تمامًا كما اعتادت في تربتها. أمّا أنا، فسأبحثُ دائمًا عن مكان جديد أهربُ إليه مع ألم الفراق الدائم، أجلدُ نفسي بذكريات بعيدة. أتبعُ بوصلة تحقيق الأحلام، بتذاكر سفرٍ دون إياب. وكلّما رفعتني الحياةُ من حفرة اليأسِ قليلًا تعود وترمي عليّ التراب وتبللني فيثقُلُ عليّ الصراع والمحاولة وأعودُ لأرقد داخل نفسي، فنفسي الآن هي أقرب ما يكون لأسمّيها موطني.