السجن سيف قانوني وسياسي مسلط فوق رؤوس الناشطين والاعلاميين

فبراير 22, 2024

A-

A+

لم يعبر لبنان عام 2024 الى ضفة الدول التي تعتمد المنظومة القانونية الحامية والضامنة لحرية التعبير الممارسة على مواقع التواصل الاجتماعي. فالمسائل الناشئة عن حرية التعبير والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي لا تزال مصنفة كجرائم وأفعال تلاحق بصفة جزائية امام القضاء العدلي بعقوبات تصل الى السجن والتوقيف الاحتياطي والغرامات الكبيرة.

فالدستور اللبناني بمقدمته ومواده وبالتحديد المادة 13 منه يصون حرية التعبير وابداء الرأي قولاً وكتابة لكن القوانين والاجراءات والأحكام التي صدرت لا تزال تشكل تهديداً لحرية التعبير للصحافيين والمواطنين من خلال جعل الأفعال الناجمة عن الكتابات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي خاضعة لعقوبات سجنية وجسدية ورقابات مسبقة تفرغ حرية التعبير من معناها .

اجراءات تجعل المواطن او الصحافي على مواقع التواصل الاجتماعي الساعي الى نقد مسار سلطوي او مشاريع تحمل شبهات فساد، او مرجعيات وزعامات، مهدداً بتصنيف خطأ التشهير بالجرم الجزائي وعقوبات السجن.

ديما صادق وحكم السجن

قبل أشهر أصدرت القاضية روزين حجيلي حكماً بسجن الاعلامية ديما صادق سنة واحدة مع غرامة مالية في دعوى تقدم بها التيار الوطني الحر ضدها على خلفية تغريدة على حسابها الخاص وصفت فيها التيار بالعنصري والنازي في معرض تعليقها على حادثة وقعت. على الرغم من أن ديما صادق هي اعلامية الا أن ملاحقتها تمت امام القضاء العدلي وليس امام محكمة المطبوعات التي تمتنع وفق الاجتهادات عن اصدار احكام تفرض عقوبة السجن.

ملاحقة صادق امام القضاء العدلي يستند الى اجتهاد صادر عن محكمة التمييز يؤكد عدم اختصاص محكمة المطبوعات بالنظر في الافعال الناجمة عن الكتابات والتعليقات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي. فقانون المطبوعات هو قانون خاص وضع لتنظيم شؤون المطبوعات الصحافية كما ان محكمة المطبوعات هي محكمة استثنائية أنيط بها النظر في جميع القضايا المتعلقة بجرائم المطبوعات. الاجتهاد يرى ان مواقع التواصل الاجتماعي تتيح نشر اخبارهم وصورهم الا انه نشر خاص ليس معداً للتوزيع باستمرار وباسم معين وبأسماء متتابعة وهو بالاضافة الى ذلك غير خاضع للضوابط المتعلقة بالمطبوعة الصحافية المنصوص عليها في قانون المطبوعات.

تقول وكيلة ديما صادق المحامية ديالا شحادة ان عدم احالة قضية ديما صادق الى محكمة المطبوعات سليم قانوناً بحكم أن المنشور وضع على صفحتها الخاصة وهو يحمل طابع الرأي لا طابع التقرير الصحفي وبالتالي فان الاجتهاد القانوني في هذا المجال سليم انطلاقاً من ان الغرض من محكمة المطبوعات هو حماية الأعمال الصحفية.

 لكن شحادة ترى ان الحكم يشكل كارثة من الناحية القانونية متمنية على محكمة الاستئناف ابطاله ليس فقط لعدم توفر العناصر الجرمية بل من خلال التطرق والتوقف عند أبعاد هكذا أحكام وتهديد حرية التعبير لأن أي ناشط أو مواطن أو صحافي سيتجرأ على مواقع التواصل الاجتماعي على انتقاد فعل عنصري او ما شابه، سيجد نفسه ملاحقاً.

قضية ديما صادق والحكم بسجنها من دون وقف تنفيد وصفه قانونيون بأنه غير مألوف وغير متوازن مع الافعال التي تشكل أساس الدعوى المقدمة في حقها ويشكل خطرا على حرية التعبير وابداء الراي والسعي لاسكات معارضين. الحكم بسجن ديما صادق بسبب منشور على صفحتها الخاصة كانت سبقته أحكام اخرى بالسجن ضد فداء عيتاني مثلاً عام 2018 و2019 لمدة عامين على خلفية منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي كما سبقها حكم عام 2019 بسجن الصحافي آدم شمس الدين لثلاثة اشهر من قبل المحكمة العسكرية.

قرارات وأحكام أخرى طالت صحافيين بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تماما كما طالت مواطنين وناشطين في قضايا مختلفة. الأسوأ في بعض القرارات أنها اعتمدت على طلب تعهد من المستدعى الى مكتب جرائم المعلوماتية بعدم التعرض لطرف ما، وهو ما يشكل خطراً حقيقياً على حرية تعبيره لاحقا وحماية للطرف المدعي الذي قد يرتكب جرماً في ظل تعهد الطرف الاول مكرها، عدم تسليط الضوء عليه وانتقاده.

محاولة تعديل القوانين سقطت… التعويل على القضاء

حتى الآن لم تنجح محاولات تعديل القانون للوصول الى منظومة قانونية تواكب حجم اعتماد المواطنين والصحافيين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن رأيهم وانتقاد مسارات فاسدة او فاشلة في ادارة ملف أو مشروع أو لوقف ظلم او جرم مرتكب في حق فئات مهمشة وضعيفة.

عام 2010 حاولت مؤسسة مهارات بالتعاون مع النائب السابق غسان مخيبر خلق منظومة قانونية متكاملة لحماية حرية التعبير والاعلام وابداء الرأي واخراج جرائم الرأي والنشر في أي وسيلة سواء كانت اعلامية مرئية أو مسموعة او مكتوبة أو حتى موقعاً الكترونياً او مواقع تواصل اجتماعي من الفعل الجزائي وعدم انزال عقوبة السجن بها مهما كانت وسيلة النشر. قدّم مخيبر بالتعاون مع مهارات اقتراح قانون شامل لاصلاح قانون الاعلام في لبنان وحرية النشر وجعله مواكبا لكل التطورات المتسارعة.

 لكن هذا الاقتراح وبعد 14عاما لم يقر وتعرض لتشوهات أخرجته من أهدافه التي تسعى الى منع التوقيف الاحتياطي في قضايا الرأي والنشر مهما كانت الوسيلة المعتمدة وسواء كان المعني صحافياً أو مواطناً من دون صفة صحفية.

بحسب النائب السابق غسان مخيبر فان أغلب الملاحقات تتم بالتوقيف الاحتياطي وبالتالي فان الاصلاح الاساس تجلى بتأمين أصول ملاحقة واحدة للجميع ومنع التوقيف الاحتياطي واخضاع الدعاوى الناشئة عن ذده المسائل للمحاكم العادية. المعيار المعتمد في هذا المجال بحسب مخيبر يستند الى نزعة القوانين الدولية ومعاييرها بعدم انزال عقوبة السجن بجرائم الرأي.

لم تكن محاولة مهارات وغسان مخيبر وحيدة ويتيمة، فالنائب جورج عقيص ومع تطور الوسائل الرقمية وتحول المواقع الالكترونية الوسائط الأوسع للنشر من خلال حسابات خاصة او مواقع الكترونية، تقدم عام 2019 باقتراح قانون لاعطاء هذه الوسائل الالكترونية صفة وسائل النشر وبهدف منع التوقيف الاحتياطي في جرائم النشر وحظر توقيف أي شخص بسبب ابداء الرأي وعدم اخضاع مسائل النشر للقضاء الجزائي واللجوء الى قضاء مدني عادي واستبدال عقوبة السجن باجراءات أخرى سريعة  كالتعويض السريع والمناسب وسحب أخبار من التداول. لكن وبعد خمسة أعوام لم يبصر هذا الاقتراح النور وربما ضاع في أدراج اللجان.

ممانعة قوى سياسية وبرلمانية لإحداث تعديل جذري في المنظومة القانونية الضامنة لحرية التعبير والنشر لم تسمح حتى الآن باقرار قانون حديث للاعلام والنشر وأبقت عقوبة السجن والتوقيف الاحتياطي سيفاً مسلطاً فوق رؤوس اعلاميات واعلاميين وناشطين ومواطنين يلجأون لمواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم وقضاياهم ومواقفهم.

الخبيرة القانونية رنا صاغية ترى ان المشكلة الاساسية تتجلى بعدم وجود قانون لمواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي تحال المسائل الناشئة عن هذه المواقع الى القضاء الجزائي العادي من دون أي حماية او تمييز بين جرائم النشر والجرائم الاخرى. وتضيف، “يبقى التوقيف الاحتياطي وانزال عقوبة السجن”.

وفي ظل الموانع القائمة لوضع قانون يسقط عقوبة السجن والتوقيف الاحتياطي ويضع المعالجة القانونية لمسائل التواصل الاجتماعي عند بعدها المدني لا الجزائي من دون تشبيهها بالجرائم الاخرى، ترى صاغية أن قانوناً جديداً مهم لكن يمكن للقضاة اللجوء الى الاجتهاد وفق القانون الحالي لحماية حرية التعبير وعدم الحكم بالسجن في هذه القضايا سواء أمام محكمة المطبوعات أو القضاء العادي مشيرة الى قرارات مهمة صدرت قبل عام 2018 في هذا الاطار أفضل حتى من محكمة المطبوعات وتعطي امثلة عن قرارات قضائية بعد حراك 2015 .

الرقابة المسبقة ومكتب جرائم المعلوماتية خطر على حرية التعبير

وجود مواقع التواصل الاجتماعي خلق واقعا جديدا في السنوات الـ15 الاخيرة فيما يتعلق بقضايا النشر. فوسائل النشر كانت قبل التواصل الاجتماعي حكرا على الصحافي الذي تطبق عليه قواعد حرية الاعلام والصحافة وضوابط قانونية. بحسب الخبير القانوني علي مراد خلقت  مواقع التواصل الاجتماعي شكلاً جديداً من التحدي القانوني والاجتماعي اذ بات المواطنون قادرين على التعبير عن وجهة نظرهم في شكل شبيه بما كان يفعله الصحافي سابقاً لكن من دون ضوابط قانونية. وبالتالي بات النشر على مواقع التواصل الاجتماعي يعرّض الشخص المعني لجرائم التشهير والقدح والذم والافتراء وغيرها. يرى مراد ان المعضلة الاساسية في لبنان تتجلى بأن المنظومة القانونية لا تزال تتعامل مع مسائل التشهير بصفتها جرائم جزائية يعاقب عليها جزائيا بالسجن.

التحدي الآخر الذي يواجهه الصحافيون والمواطنون الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أن مكتب جرائم المعلوماتية الذي يعمل تحت اشراف وبطلب من النيابة العامة، وُجد لمحاربة الجرائم الالكترونية كعمليات الابتزاز والقرصنة، وأعطي صلاحية التعامل مع مسائل النشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

الممارسة الأخطر من هذا المكتب بحسب مراد أنه يطلب توقيع تعهدات بعدم التعرض وهي تعهدات مخالفة للدستور الكافل لحرية التعبير.

يتوسع مراد في شرح خطورة هذا النوع من التعهدات التي تشكل رقابة مسبقة على الناشطين والصحافيين، “فهذا التعهد يعني التنازل الطوعي بسبب الضغط الممارس من قبل الضابطة العدلية عن الحق المسبق بالنشر، كما يعني عملياً بوجود رقابة سابقة بناء لما نشر اليوم لمنع انتقاد او نشر لاحق، وبالتالي، إذا أورد ناشط اليوم معلومة غير صحيحة عن طرف او شخص يصبح بموجب التعهد الخطير غير قادر عن  الحديث عن الشخص المرتكب او المخالف”.

يعتبر مراد أن “هذه الرقابة السابقة أخطر ما يكون على حرية التعبير على مواقع التواصل اذ أن القاعدة السليمة تفترض الرقابة اللاحقة بمعنى ان يكتب الناشط والصحافي ما يريد واذا وقع خطأ يمكن للمتضرر أن يلجأ الى القضاء لتقديم دعوى مدنية للمطالبة بالحق أو بالتعويض”.

يدعو مراد في شكل رئيسي الى التمييز بين الاعلام الالكتروني كالمواقع والصحف وغيرها وبين النشر على مواقع التواصل الذي لا يقتصر فقط على الاعلاميين، كما يشدد على ضرورة الغاء جرائم التشهير كجرم جزائي لما تشكله من خطر يمس  حرية كل كاتب رأي واخضاعه لرقابة مسبقة.

لبنان مدعو اليوم الى مواكبة التطور وبناء منظومة قانونية ضامنة لحرية التعبير وابداء الرأي أسوة بالدول الديموقراطية التي تتعامل مع مسائل التواصل الاجتماعي باخراج مسائل التشهير من الجرم الجزائي ووضعها في بعدها المدني علماً أن هذه المسائل تختلف مقاربتها عن جرائم الكراهية والتحريض على العنف والعنصرية التي تبقى خاضعة للعقوبة الجزائية بسبب خطر تداعياتها.

ينشر هذا التقرير ضمن برنامج زمالة مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”، الذي تنفذه مؤسسة “مهارات” بدعم من الاتحاد الاوروبي. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الاوروبي.