رسالة إلى أمي في زمن الخوف والهجرة واليأس
مارس 21, 2023
A-
A+
أنت التي ترفعين الشمس على أكتافك، فتستفيق صباحاتنا مع ابتسامتك، تنذرين الكون بداية النهار، تدور الطواحين، تتشرّع أبواب الرزق، تغتسل البراعم من ندى أناملك لتبعث عطرًا كشذى أنفاسك.
على صدرك يستريح محارب، طبيب، أستاذ، تلميذ، وفلّاح.. يرشفون من قلبك الحياة وينسجون عندك احلام المستقبل. طوبى لك لصبرك وتعبك وحبّك، لا يتبدلون، فهل يكفيك الفردوس هديةً تحت أقدامك؟
أتستحقين انهياراً وأنت التي لا تتعب، أنت بهجة العيد، أنت اللمعة في عيون الأطفال المرتوية الممتلئة بطونهم حبًا. ربّيت وصبرت وبكيت ليكبروا واستلموا أمام مقلتيك الشهادات والإنجازات في الحياة، واليوم غادروا… أتستحقين كسر قلبك اليوم في زمن الخوف والجوع والهجرة؟ ألا يتجاهلك ذلك البؤس، ويمرّ محاذاتك فلا تلمسك عتمته، فأنت قبلة الأمان.
بالرغم من ذلك كلّه، مثابرة لا تتعبين ولا تيأسين، تتألمين بصمت قاتل داخلك لكنّ وجهك ينير لنا دائمًا الدرب. تعطين ثمارك بلا خجل مهما التوى عودك وتعب، فأنت قطعة من الجنّة، شجرة مثمرة لا تنضب.
تنحتين بأنفاسك الطريق لنصل إلى برّ الأمان لكنّ لبنان كافأك بالهجرة والمشقّة. تبكين أضعافًا لفراق قطعة من قلبك، أو لعذابهم في بلد لا مستقبل فيه ولكنّك في نهاية المطاف الملاك الحارس، الذي يلفّ بجناحيه فيخفّف الارتطام، لكن من يخفّف عن ملاكنا؟ تعملين وترضين بالقليل يكفيك فرح أطفالك حولك، ومهما كبروا و نضجوا فهم أطفالك، يرتمون تحت أقدامك الطاهرة يبكون، يشكون ثم يخرجون للحياة القاسية، وأنت هناك في زاوية تحملين همّ الأنام لا مبالية كم من تعب في عظامك قد نما.
في عيدك أمّي، خذي النور من عيوننا فننير لك المسير وتعكّزي على قلوبنا، وإذا غلب عليك النوم استلقي في ضلوعنا. أنردّ بذلك الجميل؟
أمّي، نبضك علبة موسيقى قديمة مهملة في مكتبة مهجورة، أعطت ومنحت ما استطاعت من علم وحبّ وظلّت مرجعًا موثوقًا يحمل في جوفه الأمان، ردّي أمي نبضك ترابًا على قبورنا بدل التراب، قبور حفرت لنا ونحن أحياء أبعدتنا عنك وأبكتك بسبب البؤس والفقر والانهيارات. دموعك، إن انهمرت، تضاهي خشوع نبيّ في صلاته، وسناء قدّيس للسماء، ودمًا متوقّدًا في عروقنا ليجازيك حقّك، لكننا عاجزون.
أمّي خذي منّي قلبي، روحي، عيوني، صدري وأذرعي اصنعي لك حصنًا يحميك من قسوة الحياة، من رصاص المشقّة، ومن ظلم البلاد.
أمّي لو أمكنني، لغزلت لك من الغيوم ثوبًا ورصّعته بالنجوم يا قطعةً من سماء، يا أغلى ما أنزل على هذه الأرض، يا بعضًا من رحمة الله على هذه البسيطة.
لا بدّ أنّ الله وهبك أيّامًا بساعات مضاعفة، وإلّا أمّي من أين لك هذا الوقت كلّه لتكوني أمّي، معلّمتي، ممرّضتي، مستشارتي، مشكى ضيمي ورفيقة اللعب والضحك؟ لا وجود في لغات العالم كلّها لكلمة تعني الحب أكثر من قول إسمك، فالذي تقدمينه قليل عليه نعته بالحبّ!
أمّي هزّي سريري كما في زمن بعيد فعلت، لنعود أنا وأنت إلى أيام سعيدة، أبقى طفلك الصغير وتظلّين معي في قوقعة صغيرة، نسخر من الحياة ونملأ بيتنا برائحة السماء، بصلاتك قربي فأهجع في نوم عميق على أنغام ترتيلاتك، أشدّ حبال شعرك الفضي بيدي الصغيرتين فتقبّلين جبيني وأغفو. قومي أمّي نزرع أثلامًا من الزهور في أرض واسعة وبعيدة بالقرب من جنة الربّ وأهديك كل يوم مئة وردة.
أطلب الله أن يهوّن وطأة الأزمات وقسوة البلاد لأجلك أنت. رغم القوة التي تواجهين بها جهامة الحياة لا يتوقف قلبك عن العطاء بكل طيب ورقّة. أنت بوصلة الحب والمستقبل ووسادة السقوط، حاضرة دائمًا للإستجابة للنداء. هذه هديتي هذا العيد، فأنت سرّ الحياة والطمأنينة، نور الفجر وقبلة الصباح، وما دمت لنا فليذهب كل شيء.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي