من مصر الفرعونية إلى لبنان الفينيقي: لماذا لا نفتخر بانتمائنا العرقي؟
مايو 24, 2023
A-
A+
تلك القطعة الصغيرة من الأرض التي كانت محط رحال العديد من الحضارات على مرّ التاريخ، العربية، بلاد الأبجدية، بلاد فينيقيا، لبنان. لماذا نرفض الانتماء لفينيقيا؟ أيجعل اعترافنا بتاريخنا وانتمائنا إليه ناكرين لواقعنا الحالي؟
رجوعًا بالزمن إلى أجدادٍ كنعانيين نشأوا في لبنان عمومًا وساحله خصوصًا، من رأس شمرا في سوريا امتدادًا على الساحل إلى “دور” جنوبي تل أبيب؛ وداخليًا امتدت فينيقيا حتى سلسلتي جبال لبنان. لذعت شمس البحر المتوسط جبين هؤلاء، بحّارةٌ ماهرون، تجّار بارعون، ناجحون اقتصاديًا بالتبادل والعلاقات مع الدول المحيطة بالمتوسط وصولًا إلى شمال أفريقيا وأوروبا اليوم.
يتواجد لبنان منذ ما يقارب الـ7000 سنة حضاريًا. لم تكن فترة تواجد الكنعانيين منفصلة عن الفينيقيين بل أن فينيقيا نشأت بوجودهم ومع الحركة التجارية، حسب المراجع اليونانية، فأطلق عليها هذا الإسم كتسمية أجنبية إذا صحّ القول. دام وجودهم طويلًا على هذه الأرض وتركوا آثارًا مهمة مكتشفة كاملة كمدينة جبيل أو غير كاملة كصيدا وصور. بالرغم من الفتوحات و احتلال الرومان لبلادنا الذي لم يقصِ السكان بل أنّهم استفادوا من هذه المنطقة الصاعدة اقتصاديًا وتجاريًا ومكثوا فيها لتطويرها لا لهدمها، لذلك لا تزال المدن الرئيسية الفينيقية التي ذكرت موجودة ليومنا هذا.
بالنظر إلى أصولنا لا يخلو الأمر من وجود خلطات جينية مختلفة، فقد استقدم الاسكندر المقدوني إلى بلادنا عائلات من اليونان ظنًا منه انه سوف يُدرجُ الحضارة إلى فينيقيا ولكن العكس قد حصل فانبثقت الحضارة اليونانية من الفينيقية وانتقلت عبر إبحارهم وعمليات التبادل حيث كانت فينيقيا أقرب إلى الحضارة فقد كانوا توصلوا لاستعمال الأبجدية. أما بالعودة للتسمية نسبة إلى كلام الدكتور ناجي كرم فإن الفينيقيين لم يطلقوا على أنفسهم هذه التسمية فهم الكنعانيون، لكن هذه التسمية استخدمت فقط في التجارة والتبادل مع اليونانيين، فقد وُجِدت عملة في بيروت كُتِبَ عليها: بالحرف الفينيقي “بيروت مدينة أمّ في كنعان” ومن الجهة الأخرى و بالأحرف اليونانية “بيروت مدينة أم في فينيقيا”.
الأصل فينيقي، اليوم عربي، غدًا؟ أيمنع توالي الحضارات على هذه البقعة واختلاطها من الاعتراف بأصلها مع أو دون برهان جيني ودراسات بيولوجية عميقة، على الرغم من وجوده حيث أن احدى الدراسات في عام 2017 أظهرت وجود 90٪ من جينات الشعب اللبناني تربطه والكنعانيين، أي الفينيقيين.
ربما حكمت البقعة الجغرافية للبنان بجعله جزءًا اليوم من العالم العربي، بلدٌ صغير مرّت عليه شعوب واحتلالات كثيرة حتى يوم تأسيس لبنان الكبير. الفتوحات العربية والاسلامية التي دخلت عليه ضمّت شعبه إلى أكثر من 400 مليون عربي ناطقين بالعربية، ثقافةٌ ممزوجة بالعديد من الحضارات، لا تنكر كينونة لبنان العربية، ولا تحصر هذه الدولة بفينيقيتها.
فلبنان جزء من هذا وذاك. نشأ نفس الصدام في مصر بعد مقال لعميد الأدب العربي طه حسين عام 1933 عندما تحدّث عن الشعوب التي دخلت على مصر من الفرس واليونان والعرب والعثمانيين والفرنسيين أي أنّها تعرّضت لأنواع من العدوان. وقام العديد من الكتّاب بانتقاد هذا القول فاعتبروا انّه بذلك ينكر عربية مصر وفضل العروبة، واختلفت الآراء والتفسيرات والتصريحات بينهم من مصري إلى سوري وعراقي. مؤكّدين جميعًا التشديد على عروبة مصر والشرق الأوسط وغياب الحاجة للعودة إلى ذكر الفراعنة والآشوريين والفينيقيين في يومنا هذا.
إنّ مرور الحضارات واختلاف الشعوب لا ينكر أصلها ولا يحصر مصيرها، فاعتناق التسمية الفينيقية لا تعني أننا بعيدون عن العرب اليوم. ولو أنّ فئات معيّنة أو مجموعات قد شقّت الطريق حتى يومنا هذا محافِظة على شيء مما مضى من هذا التاريخ الفينيقي لكانت اليوم تجتمع في سواحلنا ثُلّةٌ فينيقية كما الأمازيغ في شمال أفريقيا الذين حافظوا على أصولهم حتى يومنا هذا أو كالسكّان الأصليون للقارة الأميركية.
لا يجزم انتماء لبنان اليوم إلى العالم العربي تفرّده بهذا الأصل فقط، فلِلُبنان مُستَقرّ أوّل هو الساحل الفينيقي اللبناني وعَزوةٌ أخرى عربية. فكيف لا نتغنّى اليوم ببقعة مليئة بالآثار الفينيقية مزار للسوّاح، تاريخٌ آهِلٌ بغنًى ثقافي عظيم، وننكِرُ أصول أجدادٍ بحّارة قد مرّوا على هذه الأرض وصنعوا منها رغم صغر حجمها نقطة تجارية اقتصادية مهمة وكتبوا فيها أولى حروف الأبجدية في زمنٍ غابت فيه الحضارة. لماذا نفسد التاريخ بفصله عوضًا عن توحيد نشأة شعبنا منذ زمن بعيد ونطلق على شعبنا الاسم الذي يحلو له!
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي