ليس صراعًا حول المودع و المصارف بل حول سيادة القانون

أبريل 22, 2025

A-

A+

في خضم الانهيار المالي في لبنان، تحوّلت عبارة “حماية المودعين” إلى شعار سياسي يتردّد في مختلف المحافل. عادت هذه العبارة مجددًا في الورقة السياسية الصادرة عن مجلة Executive، بالشراكة مع الجمعية الاقتصادية اللبنانية واتحاد المصارف العربية، والتي تطالب بالحفاظ الكامل على ودائع جميع المودعين كشرط أساسي لأي نهوض اقتصادي.

لكن من الذي تتم حمايته فعليًا؟ وبأي ثمن؟

حان الوقت لإعادة صياغة النقاش. ليس باعتباره مواجهة بين المصارف والمودعين، ولا كصراع بين السيادة المحلية وشروط صندوق النقد الدولي، بل كمساءلة من تصرّف بمسؤولية ومن أساء استخدام الأنظمة المالية والأدوات المصرفية. بين من عانى في الأزمة، ومن تمكّن من الخروج منها عبر علاقات غامضة وحمايات سياسية.

منذ العام 2019، حُرم ملايين اللبنانيين من الوصول إلى مدّخراتهم. في المقابل، تمكّن عدد محدود من الأشخاص النافذين سياسيًا أو المقرّبين من دوائر القرار المالي والسياسي من تحويل مبالغ طائلة إلى الخارج، بهدوء، قبل وبعد فرض قيود غير رسمية على حركة رؤوس الأموال، بل وحتى خلال فترة إغلاق المصارف أمام عامة الناس.

هؤلاء لم يكونوا مودعين عاديين، بل أشخاصًا على صلة مباشرة بأصحاب المصارف أو كبار المساهمين فيها. أموالهم خرجت من البلاد، فيما وقف المواطنون في طوابير الصرّافات الآلية لسحب مبالغ زهيدة كل أسبوع.

أين كان “المدافعون عن حقوق المودعين” في تلك اللحظة؟

علينا أن نبتعد عن الخطاب التسطيحي والتبسيطي، الذي يضع كل المودعين في سلّة واحدة، وكلّ المصارف في سلّة أخرى. علينا أن نقارب كل حالة على حدة، في ضوء القانون، والشفافية، والمعايير الدولية المعتمدة لمعالجة الأزمات المصرفية.

في أوروبا وسواها، تتّبع إجراءات إعادة هيكلة المصارف تسلسلًا واضحًا في تحمّل الخسائر: يتحمّل المساهمون وأعضاء الإدارة العليا الخسائر أولًا، يليهم حاملو السندات الثانوية، ولا يُلجأ إلى أموال المودعين غير المضمونة إلا كخيار أخير، مع اعتماد حدود حماية واضحة، وآليات قانونية شفافة، وضمانات عادلة.

تُظهر أمثلة قبرص (2013)، وإسبانيا (2017)، وإيسلندا (2008–2011) أنه من الممكن إعادة هيكلة نظام مصرفي منهار بطريقة تحفظ المصلحة العامة وتحمّل المسؤولين عن الانهيار تبعات أفعالهم.

لبنان لا يحتاج إلى عدالة “على الطريقة” اللبنانية، بل إلى تطبيق المعايير الدولية كما هي، من دون تحوير أو التفاف.

اعتبارًا من العام 2016، توقفت المصارف اللبنانية عن تمويل الدولة بشكل مباشر. لكنها بدلاً من أن تقلّص انكشافها، دخلت في عمليات هندسة مالية معقّدة أطلقها مصرف لبنان، تميّزت بعوائد مرتفعة وغموض تام في ما يخص المخاطر.

أتاحت هذه الهندسات للمصارف تسجيل أرباح غير واقعية، فيما كانت تستنزف السيولة بالدولار من السوق. وكانت الفوائد المضخّمة المرافقة لهذه العمليات مخصّصة لعملاء محدّدين، غالبًا على صلة بصنّاع القرار، بينما لم تُعرض على الجمهور العام.

وما هو أسوأ، أن هناك شبهات جدّية حول مخالفات وحالات تواطؤ. فبعض المصارف سهلت تحويل أموال إلى الخارج لحساب عملاء نافذين، في الوقت الذي كانت تمنع باقي المودعين من الوصول إلى مدّخراتهم. ولا تزال التحقيقات الصحافية تكشف عن تحويلات ضخمة حصلت في خريف 2019، عندما كانت المنظومة المصرفية تنهار أمام أعين اللبنانيين.

فأين هي المحاسبة على هذه الانتهاكات؟

الورقة الصادرة عن مجلة Executive، الصادرة عن وسيلة إعلامية مملوكة من أحد كبار المصرفيين، وهو في قلب الجدل العام اليوم، لا تقدّم أي مقترح جدي لتمييز السلوك القانوني من غير القانوني. بل تضع جميع المودعين في سلّة واحدة، وتوجّه أصابع الاتهام إلى صندوق النقد الدولي وكأنه يسعى إلى مصادرة جماعية للودائع.

لكن الواقع أن صندوق النقد لا يطالب بذلك إطلاقًا. ما يطلبه هو إطار شفاف وجدّي لإعادة هيكلة المصارف، وحماية صغار ومتوسطي المودعين، وتوزيع عادل للخسائر، يبدأ بمن استفادوا من النظام أكثر من غيرهم.

لبنان لا يحتاج إلى شعارات. بل إلى عدالة حقيقية: تدقيق شامل في التحويلات المالية المشبوهة؛ إعادة هيكلة المصارف المتعثّرة وفق تسلسل المسؤولية في تحمّل الخسائر؛ وملاحقة قانونية للمخالفات، ولتضارب المصالح، وجرائم التداول الداخلي.

الإنقاذ لن يتحقق عبر حماية متساوية للجميع، بل عبر حماية عادلة لمن تضرروا، ومحاسبة من خانوا الثقة العامة.

هذه ليست مواجهة ضد المصارف. إنها معركة من أجل دولة القانون.