رسالة مُنهَك لبعبدا

مارس 1, 2025

A-

A+

في كل معركة، نحن أول من يدفع الثمن، وفي كل أزمة، نحن من يواجه التحديات. كل ذلك يحدث في وقت تتقدم فيه دول العالم بينما نكاد نغرق في محاولات النهوض. منذ عام 2019، وأنا أحاول بناء مستقبلي في وسط انهيار بلد يتفكك أمامي. 

دخلت الجامعة فيما كان الاقتصاد ينهار، تخرجت فيما كانت فرص العمل تختفي، حاولت أن أبقى فيما كان الجميع يهاجر. عشنا جائحة كورونا زادت عزلة هذا البلد عن العالم، ثم فراغًا سياسيًا جعلنا رهائن الأزمات، والآن حرب جديدة، وكأن هذا البلد مُصِرٌّ على اختبار قدرتنا على التّحمل بدل أن يمنحنا فرصة للحياة. 

كل ما يحدث اليوم يعيدنا إلى روايات أهالينا عن الحرب الأهلية، الاجتياح الإسرائيلي، والأزمات التي لا تنتهي. لكن بالنسبة لي كشاب، هذا الماضي لا يعنيني. ما يعنيني هو الحاضر الذي يحدد مستقبلي، هو هذا البلد الذي نحاول تغييره بكل الطرق الممكنة، من انتفاضة 17 تشرين إلى الانتخابات، لكننا نجد أنفسنا في كل مرة أمام الجدار نفسه: سلطة لا تريد الإصلاح، وواقع يُعيد إنتاج الأزمات بدل حلّها. 

لن أعود إلى التاريخ البعيد، بل سأبدأ من 2019، حين وضعت حجر الأساس لمستقبلي. عشنا في عهد رئيس جمهورية قال لنا بصراحة: “هاجروا”، وكأن الوطن لم يعد يتسع لنا. تعاقبت الحكومات، ولم ترَ في الشباب سوى عبء، لا فرصة، حكومات كان همها المحاصصة والمكاسب، لا بناء دولة تحمينا. كبرنا في بلد تحكمه الدويلات، حيث السلاح المتفلّت والفساد وغياب الأمن باتوا القاعدة، والانقطاع الدائم للكهرباء والاتصالات والخدمات الأساسية أصبح واقعًا لا جدال فيه. 

عشنا الطوابير بكل أشكالها: طوابير الخبز، طوابير المصارف، طوابير البنزين. عشنا كل أنواع الأزمات التي لا يستحقها أحد، لكننا نحن الشباب كنا دائمًا أول من يدفع الثمن، أول من يُطلب منه الصبر، وأول من يُقال له: “هذه ليست معركتكم، تقبّلوا الواقع أو ارحلوا”. 

هل ذنبي أنني وُلدت في بلد الأزمات؟ 

سؤال يطرحه أغلبية شباب جيلي: هل ذنبي أنني وُلدت في بلد يخرج من أزمة ليدخل في أخرى؟ في منطقةٍ لا نعرف فيها صباحًا دون نزاعات؟ نكبر على وعودٍ زائفة، ونعيش في واقعٍ يتحكم به الخارج، كأن بلادنا ليست لنا، وكأننا مجرّد ورقةٍ في حسابات القوى الكبرى. أما أصحاب السلطة هنا، فليسوا سوى تلاميذ في مدارس تلك القوى، يُنفّذون ولا يقررون، يتبعون ولا يقودون. 

نعيش في بلدٍ يتأرجح بين التدخلات الأميركية والإيرانية والعربية والسورية والإسرائيلية والأوروبية، وكأن الجميع أوصياء علينا. تأتي إيران تحت شعار الدفاع عن فلسطين، وهي حتما تنفّذ مشروعها لتقوية نفوذها هنا، فيما تمارس أميركا وصايتها عبر مبعوثيها وضغوطها السياسية، لتُخبرنا كيف ندير شؤوننا. أما فرنسا، التي خرجت رسميًا بعد عقود من الانتداب، فما زالت تتدخل في كل شيء، كأنها لم ترحل يومًا، وبالمقابل إسرائيل، تقصفنا منذ عام ونيّف، من دون رادع أو رقيب… 

أنا لا أرفض فكرة المساعدة، فأنا واعٍ تمامًا لحجم الانهيار الذي أوصلنا إليه سياسيونا، وأدرك أننا لا نستطيع إعادة بناء بلدنا من دون دعم خارجي، ومن دون عودتنا للحضن العربي. لكني أرفض أن نتحوّل إلى أدوات في يد تلك القوى، أن نقبل بهم أولياء علينا. لماذا لا نكون أقوياء بتضامننا بدل أن ننتظر خلاصًا من الخارج؟ لماذا أصبح كل طرف في الداخل يعتبر نفسه وصيًا على جزء من البلد، يحرر ما يريد، يسيطر على ما يريد، ثم يدّعي أنه وحده من يملك القرار والسيادة؟ 

أنا أؤمن أن بين الدول لا محبة، لا عواطف، لا أحاسيس، بل مصالح فقط. وكل ما سبق، ندفع نحن الشباب ثمنه. بعد حين ستتحالف أميركا وإيران، ستتقاطع مصالح الجميع، ونبقى نحن وحدنا غارقين، نحاول النجاة وسط معادلات كبرى، لا ناقة لنا فيها ولا جمل. 

حلمنا الطائرة.. باحثين عن عمل 

بعيدًا عن السياسة، لا يهمني كشاب سوى أن أبقى في وطني، لكن كل الأزمات السياسية والاقتصادية دفعتنا إلى البحث عن عمل خارج بلادنا. هذه ليست مجرد أفكار عابرة، بل واقع فرض نفسه بقوة. فبحسب دراسة نشرها “الباروميتر العربي” في آب 2024، أعرب 38% من اللبنانيين الذين شاركوا في استطلاع الرأي عن رغبتهم في الهجرة. 

الأكثر رغبة في الهجرة هم الشباب والمتعلمون، حيث ذكر أكثر من نصف الفئة العمرية بين 18 و29 عامًا (58%) أنهم يريدون مغادرة البلاد. هذا ليس مجرد توجه فردي، بل موجة جماعية مستمرة، تؤكدها الأرقام الصادمة: فقد هاجر من لبنان 170 ألف شخص في 2024، مقارنة بـ183 ألفًا في 2023، وفق حديث صحفي للباحث في “الدولية للمعلومات“. أما معدلات البطالة، فلبنان يتصدر قائمة الدول العربية التي سجلت أعلى نسب البطالة في 2023 و2024، حيث بلغت 27% من القوى العاملة، أي أعلى بـ2.4 مرة من المتوسط العام في المنطقة، وفق تقرير منظمة “الإسكوا”. 

هذه الأرقام تعكس أزمة بنيوية في لبنان، حيث لم تعد الهجرة خيارًا بل واقعًا يفرض نفسه على الشباب. بلد يحتل الصدارة في معدلات البطالة عربيًا، ويفقد عشرات الآلاف من أبنائه سنويًا.. إنَّ المشكلة ليست في طموحات الشباب، بل في منظومة سياسية واقتصادية تدفعهم دفعًا إلى الخارج، دون أي سياسات جدية لوقف هذا النزيف البشري. 

من هو العدو الأكبر: إسرائيل أم الواقع المأزوم؟ 

منذ صغرنا، ونحن نشاهد بأعيننا وحشيّة إسرائيل، ونرى عدوانها منذ سنوات، لكن في المقابل، هل تساءلنا يومًا عن العدو الآخر الذي يلاحقنا يوميًا؟ هل العدو الوحيد هو الاحتلال، أم أن الواقع السياسي والاقتصادي المأزوم في لبنان هو أيضًا عدوٌ لا يقل خطرًا؟ 

أكون صريحًا هذه المرّة، وإن كان هذا الكلام لن يعجب الكثيرين من أبناء وطني. كلنا نعلم وحشية إسرائيل، لكن هل نحن فعلًا قادرون على مواجهتها وحدنا؟ لماذا علينا أن ندفع دائمًا ثمن قرارات سياسية لا تعنينا؟ لماذا تُفرض علينا حروب لا خيار لنا فيها، وتضحيات لم نخترها؟ 

لقد أثبتت الدول أنَّ فلسطين ليست قضية إنسانية بالنسبة لها، بل ورقة نفوذ تُستخدم في لعبة المصالح، تمامًا كما استُغلّت شعوب المنطقة لإحكام السيطرة وتوسيع المشاريع السياسية. لطالما انساق البعض في لبنان خلف العواطف، متجاهلين حقيقة أن هذه الحروب لم تكن يومًا لمصلحة الشعوب، بل أدوات صراع تُدار فوق رؤوسنا. والنتيجة؟ واقعٌ مأزوم، وطنٌ منهك، وأجيالٌ تدفع وحدها ثمن حسابات لم تشارك في وضعها. لا أؤمن بشعارات من يدفع ببلدي إلى الخراب، ولا أرى فيهم من يفكر بمصلحتي. 

مقاومتي الأساسية اليوم، تمتد إلى مواجهة البطالة، الفقر، المحاصصة، والفساد. فما معنى أن نقاوم العدو الخارجي، إن كنا عاجزين عن بناء دولة حقيقيّة تحتضن أبناءها بدل أن تطردهم؟ 

إذاً، العدو ليس فقط من يقصفنا من وراء الحدود، بل أيضًا من أوصلنا إلى هذا الواقع، حيث نعيش في دولة تنهشها الدويلات، نتوقع حلولًا صعبة في ظل الفساد والمحاصصة والطائفية. إسرائيل تقتلنا بالقنابل، بينما واقعنا السياسي يقتلنا ببطء من خلال قراراته وسياساته التي دفعتنا إلى الفقر، البطالة، والهجرة. الفرق الوحيد بينهما أن الأول ينهي حياتنا بسرعة، بينما الثاني يتركنا ننهار تدريجيًا، بلا أمل أو مستقبل.

 

وطن أم سجن؟ عندما يصبح الانتماء عبئًا 

يقولون لنا: هذا وطنكم. لكن أيّ وطن هذا الذي لا يأوينا؟ كيف يكون الوطن وطنًا إذا كنا نحمل اسمه فقط، فيما نحن مشرّدون داخله، نفتّش عن فرصة، عن طريق آمن، عن حياة؟ كيف يكون الوطن وطنًا وهو لا يمنحنا الأمان، ولا الدواء، ولا حتى الحلم؟ 

نحبّه رغم كل شيء، لكنه لا يبادلنا الحب. نحمله في قلوبنا، لكنه لا يحملنا على كتفيه. كلما حاولنا التمسك به، دفعنا بعيدًا. كلما أردنا البقاء، قال لنا: ارحلوا. لكنه لا يتركنا نرحل بسلام، بل يجعلنا نحمل حقيبة الغربة مكسورين، كأننا مذنبون لأننا أردنا حياةً تشبهنا. 

يقولون: الوطن أم. لكن أيّ أم هذه التي تدفن أبناءها أحياء؟ أيّ أم تترك أولادها يتسوّلون أبسط حقوقهم؟ هذا ليس وطنًا، هذا سجن كبير، نولد فيه ونمضي عمرنا نحاول الهروب منه أو إصلاحه، وفي الحالتين نخسر. 

لكن… هل نستسلم؟ 

نعم، نحن تعبنا. نعم، نحن نشعر أننا غرباء في بلدنا. لكن هل نتركهم يأخذونه منا أيضًا؟ هم سرقوا الدولة، سرقوا الاقتصاد، سرقوا كل شيء، فهل نسمح لهم بسرقة حقنا في الأمل أيضًا؟ 

لبنان ليس لهم، هو لنا، نحن الذين نحلم بوطن يستحقنا كما نستحقه. نحن الذين لا نقبل أن يكون قدرنا التهجير أو الاستسلام. ربما الطريق طويل، وربما نحن الجيل الذي يدفع الثمن، لكننا أيضًا الجيل الذي يمكن أن يغيّر. فليكن صوتنا أعلى من أصواتهم، وليكن إصرارنا أقوى من فسادهم، ولنجعل هذا المكان، يومًا ما، وطنًا حقيقيًا. 

رسالة إلى العهد الجديد

كل ما سبق كان صرخة مني كشاب لبناني، قبل أن أتحدث بصفتي صحافي. لكن لم ينقطع الأمل. فمع العهد الجديد، ربما يكون لدينا فرصة أخيرة لإحداث التغيير الذي نحتاجه. اليوم، يأتي الرئيس جوزيف عون، جنبًا إلى جنب مع رئيس الحكومة نواف سلام، ليحملوا على عاتقهم مسؤولية كبيرة أمام الشعب اللبناني الذي أنهكته الأزمات المتواصلة. فالسنوات الماضية أثبتت أن الفساد عرقل بناء الدولة، والسلاح غير الشرعي أسقط الأمن، وكان السبب في تقويض الأمل في المستقبل. 

والآن، رسالة إلى العهد الجديد: جميعنا نطالب بدولة تحمينا، دولة قادرة على حفظ سيادتها وأمنها، دولة لا تتخلى عن حدودها أو عن مسؤولياتها. ها هي الفرصة أمامكم الآن لتثبتوا للعالم أن لبنان قادر على العودة إلى ما كان عليه من سيادة وأمان. اتخذوا القرارات التي ترونها مناسبة، لعلها تكون خطوة نحو إعادة بناء الدولة التي نحتاجها جميعًا. 

فأيها العهد، إسرائيل تهاجم أرضنا كل يوم، تخرق الاتفاقات، تقتل أبناء بلدنا، وأهل الجنوب لا يشعرون بالأمان بسببها. لقد وعدتم بالدفاع عن الأرض، ولكن ماذا عن أهل الجنوب الذين يُتركون عرضة للخطر في كل لحظة؟ هم جزء كبير من لبنان، ومن واجبكم أن تحموا كل شبر من هذا الوطن. 

أنتم استلمتم السلطة، وأصبحت المسؤولية على عاتقكم، لكن دوركم الأساسي هو حماية الأرض والشعب. نحن بحاجة إليكم لتقوية الجيش اللبناني، لنشعر بالأمان في بلدنا. لكن لا تكتفوا بالكلام، يجب أن تكون أفعالكم بمستوى أقوالكم. يجب أن تكونوا قد المسؤولية في هذا الوقت الحرج، حتى يتمكن الشعب من الوثوق فيكم، وحتى نرى نتائج ملموسة على الأرض. 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا لم تتحرك الدولة لحمايتنا، إذا لم تواكبوا حاجاتنا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا لم تفي الوعود التي تم التعهد بها، فماذا سيكون خيارنا؟ هل سنبقى ننتظر المعجزات؟  

أنتم أمام اختبار حقيقي، الفرصة بيدكم اليوم لإثبات أن لبنان يستحق أن يكون دولة حقيقية، دولة تملك القرار وتحمي شعبها من التحديات الداخلية والخارجية. أما نحن، الشباب، بحاجة إلى أمل. بحاجة إلى أن نرى لبنان يعود إلى مكانته… الفرصة اليوم في يدكم، فهل ستتمكنون من أن تكونوا القوة التي تضع لبنان على المسار الصحيح؟