“وكأن حواسه الخمس تشربها”: كيف أدخل اللبنانيون “المتّة” إلى الشرق الأوسط؟

مارس 19, 2024

A-

A+

مشروب يصعب على “أهل الجبل” التخلي عنه، فأيديهم تكاد لا تخلو منه لساعات طويلة، وبعضهم يقول إنه يساعدهم على التركيز، مؤكدين أنهم لا يستطيعون إمضاء يومهم بدونه. وما يثير الاهتمام أكثر من مذاقه الممتع – بحسب رأي محبيه – هو حكايته التي تروي أنه جيء به من مكان يبعد عن لبنان نحو 13 ألف كيلومتر… إنه مشروب “المتّة”.

كل من عشق “المتّة” قال إنها تمنحه قوّة البن ومنافع الشاي ونشوة الشوكولاتة في آن معًا. وبدورهم أكدوا سكان أميركا اللاتينية أن “المتّة” كانت الوسيلة الأساسية للتواصل الاجتماعي قبل بروز الإنترنت، والبعض هناك يحتسيها أثناء لقائه من يحب، عوضاً عن احتساء القهوة ومشتقات “الكافيين”، لتصبح الركن الأساسي في الروتين اليومي لدى المواطنين في قارة أمريكا الجنوبية. فكيف ومتى وصل ذلك المشروب العشبي إلى لبنان وأمسى شراب الضيافة الأساسي عند طائفة الموحدين الدروز على وجه الخصوص؟

لبنانيو الخارج.. “الأقرب إلى القلب وعشّاق التجديد”

يُعرف اللبنانيون بمدى حبهم واحترامهم لثقافات كل دولة يزورونها أو يقيمون فيها، وسهولة اندماجهم المرن والراقي مع مختلف الحضارات. فاللبناني زار كل دول العالم، ولأنه يعشق كل ما هو جديد، جلب عند عودته إلى وطنه الام أشياء غير مألوفة، بعدما دفعته الظروف القاسية إلى الهجرة والبقاء في الخارج لسنوات طويلة.

وقد استطاعت “نقِد” التوصل إلى أسرة ساهم أفرادها في جلب “المتّة” من الارجنتين إلى لبنان، ونشرها على نطاق واسع ضمن الأراضي اللبنانية.. فما هي القصة؟

أريج أبو خزام ينتمي إلى أسرة كان لها تاريخ عريق مع “المتّة”، فلوالده محمد أبو خزام (1910-1998) دور بارز في إدخالها إلى لبنان وتقديمها للبنانيين في أربعينيات القرن الماضي، على الرغم من قلة وسائل الإعلام والاتصال آنذاك.

وقد روى أبو خزام لـ”نقِد” قصة والده محمد الذي كان دائم التنقل بين لبنان والأرجنتين عن طريق البواخر، وخلال تواجده هناك اعتاد شرب “المتّة”، التي كانت ولا تزال رمزًا تراثياً في الارجنتين، ما دفعه إلى جلب كميات قليلة ليحتسيها في بلده الأم، ويعرف أسرته عليها.

عائلة محمد أبو خزام وأبناء قريته “كفرحيم”، الواقعة في قضاء الشوف بمحافظة جبل لبنان، أُعجبوا بالـ”متّة” آنذاك، وطالبوه بكميات إضافية عند سفره إلى الارجنتين. وكلما كان يقصد أميركا اللاتينية ويجلب معه كميات إضافية من “المتّة”، كان يزداد الطلب عليها، ليس فقط من أبناء قريته، بل أيضا من أبناء القرى المحيطة بها.

وفي خمسينيات القرن العشرين اختار محمد أبو خزام تجارة “المتّة” مهنة له، ثم ذهب وعائلته للعيش في شارع بشارة الخوري ببيروت، حيث أسس شركته المتواضعة، واقتصرت تجارته على استيراد كميات قليلة من عشبة “المتّة” من الارجنتين، وبيعها في الأسواق اللبنانية.

وعندما دخلت “المتّة” منازل أغنياء بيروت القدامى، أُعجبوا بها، ليتهافتوا إلى شركة محمد أبو خزام مطالبين باستيراد كميات إضافية، وتناقل أهل بيروت خبر وصول “المتّة” إلى مدينتهم الحبيبة، ما دفع إلى زيادة الطلب عليها.

محمد أبو خزام عمل على الترويج للـ”متّة” عبر الوسائط التقليدية، من خلال طباعته منشورات إعلانية ونشرها في شوارع بيروت القديمة، إضافة إلى القيام بحملات إعلانية متواضعة في قريته (كفرحيم)، وإرشاد الناس إلى كيفية صنع كوب “المتّة” وشربها.

شعبية “المتّة” ارتفعت في بيروت وضواحيها وسائر “الجبل”، وبعد دخول التلفزيون إلى لبنان عام 1959، قام محمد أبو خزام بنشر إعلانات مصورة حول كيفية زراعة “المتة” بدون الحاجة إلى استيرادها من أمريكا اللاتينية وتكبد تكاليف إضافية، ما دفع إلى انتشار المشروب العشبي أكثر فأكثر.

ومع تطور وسائل الإنتاج والتبادل التجاري، في عصر لبنان الذهبي (خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي)، راحت أشكال العشبة الخضراء تتنوع وتتطور بشكل يسهل على الناس تحضيرها، ومع مرور الوقت أصبح اللبنانيون قادرين على احتساء “المتّة” وهم في سياراتهم، أو في أماكن عملهم، ما أدى إلى زيادة شعبيتها وضاعف نسبة محبيها.

أريج أبو خزام شرح كيف علمه والده محمد صنع كوب “المتّة” حسب الأصول الأرجنتينية – الجبلية، وبحسبه فقد ساعد الإنترنت في الترويج للمشروب، حتى أصبح معروفا لدى أغلب اللبنانيين.

وأكد أبو خزام أن “المتّة” أصبحت أساسا في كل جلسة عائلية بالجبل اللبناني، لدرجة أن سكانه باتوا يقصدون بعضهم البعض لاحتساء المشروب العشبي والاستمتاع بمذاقه.

وشدد أبو خزام في حديثه لـ”نقِد” على أن “المتّة” قربت أهل جبل لبنان من بعضهم البعض، وراحوا يحتسونها بشكل يومي، حتى باتت جزءا لا يتجزأ من تراث طائفة الموحدين الدروز في لبنان.

وبعد اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وتحول بيروت إلى ساحة معركة، قام محمد أبو خزام بنقل شركته إلى قريته، حيث استكمل نشاطه التجاري على الرغم من انعدام الاستقرار الأمني في البلاد آنذاك.

من مشروع متواضع إلى قصة عشق استمرت حتى يومنا هذا

وفقا لأسرة أبو خزام، إن مزايا “المتّة” تظهر في حسن طعمها ولذة نكهتها وعظيم فائدتها وقد جعلت منها المشروب المفضل عند شعوب أميركا اللاتينية ولبنان، وساهم احتواء المشروب للفيتامينات والمواد المغذية في زيادة الطلب عليه، واللجوء إليه عوضاً عن شرب القهوة والتدخين المضر بالصحة.

وقد ربط سكان “الجبل” حبهم للـ”متّة” بالمقولة التالية: “إن مشاكل الحياة المزدحمة في لبنان اليوم تتطلب من كل شخص أن يكون دائما في غاية النشاط، لذا عليه اللجوء إلى وسائل صحية تجعله أكثر فعالية”.

يُذكر أن أسرة أبو خزام تستورد الآن عشرات الاطنان من عشبة “المتّة” شهرياً من الارجنتين، ما دفع بتجارتهم إلى التوسع أكثر فأكثر، وبعد وفاة محمد أبو خزام ورث ابنه أريج المهنة، وجاء بعده ابناه هادي ورواد أبو خزام، اللذان بدورهما أوصلا “المتّة” اللبنانية إلى الخليج العربي.

ختاماً، صوّر أريج أبو خزام عشق عائلته للـ”متّة” قائلا إن “شربها بواسطة القرعة والبومبيجا وسماع أصوات قرقعة فقاقيع المياه الساخنة المسكوبة على عشبتها، تجعل الانسان يشعر أن حواسه الخمس تشربها”.

وقصة آل أبو خزام هي واحدة من القصص الرائعة للّبنانيين الذين يحققون الإنجازات ويجمّلون الثقافات والحضارات أينما ذهبوا، ويعودون إلى وطنهم الحبيب (لبنان) مهما طال الزمن، جالبين معهم كلَّ جديد.