بيني وبين فيروز.. لبنان وذكريات كثيرة

نوفمبر 11, 2024

A-

A+

إستغرق مني هذا المقال أكثر من أسبوع…

ليس لقلة المعلومات، أو لأنني لا أُجيد الكِتابة، بل لأنهُ في كُل مرة أمسكُ بها قلمي للبدء في مقدمة عن الوجع الذي نعيشه، أشعرُ بأن قلمي بدأ يرتجف وكأنهُ يقولُ لي “ألم تُكفيكِ مشاهد الدمار؟”.

نعيشُ لحظاتنا ونحن خائفين، ليس لأنها سوف تبقى ذكريات، وليس فقط لأن أحلامنا ليست مضمونة بعد الآن، بل لأن أشخاصَ هذه الأحلام لن يبقوا معنا الى الأبد.

هل ألومُ الوطن؟ ما ذنبه هو؟ والفاسد هو المتآمر عليه، ويا ليتني أستطيع أن أسرقهُ كما قالت فيروز “يا ريت منن، مديتن إيدي وسرقتك “.

هل يا تُرى استطيع أن ألومُ مغادريه؟ وإن كنتُ بصدد لومهم، فعلى ماذا؟ فهل يحق لي لومهم؟ ومن قال أن المغادر يذهب ويأخذ قلبه معه؟

كنا دائماً نسمع من آبائنا وأجدادنا قصص الحروب، ونحن نرى في أعينهم الجراح التي خلّفتها، لكنني لم أتخيّل أنني سوف أشارك معهم ما عاشوه، لم أتخيّل أنني سأستيقظ كلّ يوم ويدي على قلبي خوفاً من أن أفتح هاتفي وأكتشف أنني قد خسرت صديقاً أو فرداً من العائلة. أعلم أنه في كل مرّةٍ يبدأ بها يوم جديد سأكون شاهدةً على خسارات أماكن مليئة بالذكريات أو شاهدةً على مجزرة أو دمار. ومع كل هذا، كم أنت عظيم يا لبنان، كم أنت قوي ومناضل ومقاوم بوجه كل من يطمع بك. لم أتخيل أنني أحبك الى هذا الحد، لكنني سعيدة بهذا الحب، سعيدة جداً بأنانيتي تجاهك، وحزينة وأنا أراك تتألم وأرى أحبّتك يتألمون في بلاد الإغتراب. حزينة هذه السعادة، ووحيدة هذه الأيادي الممدوة تجاه أحبابها وهي ضائعة بين البقاء والرحيل.  

في كل سنة أُودع أصدقاء، وأحباب، ورفاق درب… أودع أشخاصاً شاركتُ معهم أصعب الظروف وأجمل الأوقات، وفي كل سنة أُطبطب على قلبي وأنا أعلم أنه في نهاية المطاف هذه الطبطبة لن تُرجع الأحباب.

ولكن هذه المرة الوداع كان مختلفاً للغاية، لا لنا فقط نحن الذين نودع المغادر، بل حتى المغادر لا يعلم إن كان سوف يرانا مرة أخرى… أنا أعلم أنهم يعانون كما نعاني، وأشعر بهذه الغصة في قلوبهم الملتهبة والمليئة بالغضب والاشتياق، وأتمنى أن تكون أغانينا الوطنية كفيلة بأن تلئم جراحنا ولو قليلاً، لأن لبنان عائد وأنتم عائدون.

فعلاً لقد احتضنت بلاد الاغتراب أبناءنا، لكن ليس كحضن الأم الدافئ. نظرة الراحل الأخيرة في الطائرة وهو يقترب من السحاب باتجاه بلاد الاغتراب، ولبنان يبتعد عنه بِبُطْءٍ من خلال نافذة الطائرة، ولكن هذه المرة ليس كالمشهد المعتاد، لبنان تأكله النيران خلف هذه النافذة البعيدة، هنا تعبر عنه كلمات فيروز ” لا قدراني فل، ولا قدراني إبقا”.

لم تقتصر الغربة على الخارج فقط، لأنّ هناك من اغترب داخل لبنان. نتيجة آلة القتل والدمار والسياسة الممنهجة التي اتبعها العدو الإسرائيلي، الذي أرغم أهالي الجنوب وبيروت على ترك منازلهم، وقراهم ومناطقهم وهم يعلمون أنها سوف تصبح من الماضي كغبارٍ يتناثر في الهواء.

ماذا فعلت بنا يا لبنان؟ بقدر محبتي لك أشعر بغضب كبير تجاهك، وبقدر هذا الغضب أشعر أنني قادرة على محاربة كل من يريد أن يسرقك منّا. نحن عائدون بلا شك، حتى ولو طالت المدة. أعلم أن الوداع لن ينتهي، والإشتياق ليس له حدود، ولكن كما قالت فيروز “لا يدوم اغترابي….فانهضي في غيابي….واتبعيني إلى الكروم”.