كيف لا تقدرون جهود ميقاتي بجلب مليار يورو للبنان؟

مايو 7, 2024

A-

A+

لم “يبلعْ” رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إنتقاد اللّبنانيّين للخبر الأخير عن المليار يورو الأوروبيّة واستغرب كيف يتمّ وصفها بالرّشوة. كما تفاجأ بالسخرية والاستهزاء اللّذين طالا “فرصة العمر” الّتي يريد تقديمها للّبنانيّين للسفر إلى أوروبا في إطار الهجرة الموسميّة. غريبٌ هو أمر اللبنانيين، لا يقدّرون جهود ومساعي وحنكة سياسيّيهم، ولا يلاحظون العبقريّة الكامنة في هذه الحلول، بل عليهم بعد خبرة عقود من الزّمن أن يقدّموا ثقة عمياء بكلّ ما يُطبخ في كواليس السياسة اللّبنانيّة.

بعد الحادثة الأخيرة الّتي أودت بحياة منسّق حزب القوات اللبنانية في جبيل، باسكال سليمان، والّتي أوقِفَت على أثرها عصابة مكوّنة من لبنانيين وسوريّين وحصلت ردّات فعل كبيرة وعشوائيّة ضدّ اللّاجئين، هبّت الدّولة اللّبنانيّة لرفع الصّوت عاليًا حول هذه القضيّة وخاصّةً رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير داخليّتها اللّذين وعدا بالبحث جديًّا مع الأوروبيّين حول وضع اللّجوء السّوري وخطورته على الوضع الإقتصادي والإجتماعي والأمني والدّيموغرافي في لبنان.

الكثير سُرّوا بهذه الحماسة وانتظروا انتهاء الإجتماعات الأخيرة مع بعض المسؤولين الأوروبيّين بطرح حلّ جدّي وجذري هذه المرّة، قد تفيد لبنان واللّاجئين على حدّ سواء، لنُفاجَأ بتصريح رئيسة المفوضية الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين عن مليار دولار ستُعطى للدّولة اللبنانيّة مُقسَّمة على أربع سنوات قادمة، من دون الحديث عن أيّة شروط أو خطوات مُنتظرة لإزاحة هذا العبء عن لبنان. ما دفع الكثيرين إلى وضع هذا الأمر في خانة ليست جديدة عن منطق سياسيّينا، وهي الرّشوة مقابل تنفيذ رغبات الخارج.

والمثير للسّخرية أنّنا نعلم جيّدًا كيف تُدار الأمور في لبنان، فقد قبضت تركيا قبلنا مبالغ أكبر لكن المفارقة أنّ تركيا هي دولة حقيقيّة فيها مؤسّسات فعليّة وأجهزة أمنيّة قادرة وجيش قوي، وبنت للّاجئين خيمًا يحفظون حد أدنى من كرامتهم الإنسانيّة فيها. أمّا لبنان، فهو كثقب أسود لمثل هذه الأموال لا يمكن أن تنتظر رؤية نتائج صرفها أو أن ترصد وجهتها، والمُلفِت أنّها تُغيّر مواقف بعض السياسيّين وتُسكِتُ بعضهم الآخر عن أهمّ القضايا.

وإن كانت هذه المساعدات “بريئة” ولن ينتهي معظمها كالعادة في جيوب البعض وأزلامهم، فهي ليست بالحلّ المرجوّ، بل خطوة ناقصة تُضاف إلى مثيلاتها من الخطوات الخاطئة والناقصة والّتي تؤدّي فقط إلى تأجيل المشاكل وتفاقمها. فهي لن تنهي الصدام المتكرّر بين المجتمعَيْن اللبناني والسوري، والحوادث الّتي شهدناها قد تحصل من جديد لكن قد تتبعها ردّات فعل أوسع وأكثر دمويّة من دون القدرة على احتواءها. كما لن تنهي عبء اللّجوء السّوري على الإقتصاد والبنى التحتيّة. وستُؤجّل معالجة هذه المشاكل المتراكمة والمتأزّمة لأربع سنوات إضافيّة في ظلّ إستمرار المعاناة اللّبنانيّة والسّوريّة.

إلى جانب المساعدات الأوروبيّة، وعدت فون دير لاين بفتح أبواب أوروبا أمام اللبنانيّين للعمل بشكل موسمي في قطاعات تحتاج لعمّال تفتقدهم القارّة العجوز، عبر ضمّ لبنان لما يُسمّى بالهجرة الموسميّة. ليكون لبنان والأردن، إلى جانب دول عربيّة أخرى كتونس والمغرب خزّان أوروبا للعمّال الموسميّين بدل تشغيل اللّاجئين السّوريّين لديها.

نال هذا الموضوع قسطًا من الإنتقادات خلال الأيّام الأخيرة، حيث ينتظر اللّبنانيّون منذ سنوات طويلة حلول إقتصاديّة فعّالة تبقيهم في أرضهم أو تعيدهم إليها، لا دولة تشجّعهم على المزيد من الهجرة لتنمية إقتصاد “فريد من نوعه” قائم على أموال المغتربين، وقريبًا، العمّال الموسميّين. ما يُظهر أنّ البلد ما زال يُدار بنفس اللّامنطق الّذي ساد منذ عقود حيث تضع هذه الطبقة السياسيّة، الّتي تتداول السّلطة فقط فيما بينها، لتحقّق مصالحها الخاصّة على حساب اللّبنانيّين وطموحاتهم ومستقبلهم.

هاتان الدّعابتان أثارتا جدلًا واسعًا، فيما أصبح مؤكّدًا أنّ كلّ شيء سيمرّ من دون مقاومة تُذكر، وستبقى القرارات الخاطئة والنتائج الكارثيّة هي السّائدة في بلادنا من دون محاسبة. لقد شهدنا قرارات وجوديّة خاطئة كإتّفاقيّة القاهرة عام 1969، وشهدنا جرائم كبرى كإنفجار أو تفجير 4 آب. وشهدنا أيضًا انهيارًا اقتصاديًّا ناتجًا عن عقود من عدم التّخطيط والسياسات الاقتصاديّة الفاشلة والفساد المستشري.

نعم، ربّما صُدِمَ ميقاتي من أنّ اللّبنانيّين لم يتعوّدوا بعد على واقع الحكم في لبنان الّذي يستمرّ كسابق عهوده، طبقة فاسدة واقتصاد الLaisser faire المُترجم لبنانيًّا إلى “كيف ما تمشي تمشي”. ومن المفاجِئ أنّ اللّبنانيّين أصبحوا خبراء بمكوّنات ومقادير طبخات السياسيّين على أنواعها، حيث لا ضرورة للإستقصائيّين والمحلّلين والوثائق والمصادر لنعلم أنّ كل جديد عندهم فيه “نصبة”. والأكثر استغرابًا أنّنا ما زالنا لم نتعلّم كيف نتخلّص منهم.