


انتخابات بلدية على أنقاض الناس
أبريل 16, 2025
A-
A+
في لبنان، لا يمكن لأي استحقاق انتخابي أن يمر مرور الكرام، خاصة إذا تزامن مع تداعيات حرب مدمّرة، وتجاذبات سياسية حادة، وفوضى القوانين المعتّقة.
هكذا تُطلّ الانتخابات البلدية المرتقبة في ظل واقع وطني متأزّم، (بحسب “قانون الانتخابات البلدية الصادر في العام 2008”) لتكشف عن الهوة العميقة بين السلطة المركزية والمواطنين، لا سيما أولئك المتضررين من الحرب الذين يعيشون في قلب العاصفة، وتراهم يتساءلون: هل ستكون صناديق الاقتراع بدايةً لورشة الإعمار المنتظرة، أم مجرد محطة إضافية لتكديس رسائل الإهمال والتسييس؟
الانتخابات البلدية تتأرجح بين هواجس وطنية ومحلية
يتأرجح المشهد السياسي بين من يطالب بإجراء الانتخابات البلدية في موعدها، ومن يرى في التأجيل فرصة لإصلاح القانون الانتخابي أولاً.
إلّا أنه على الرغم من المواقف المتباينة، انطلق قطار الانتخابات وبدأ الحماس الانتخابي يتصدّر الساحات؛ وأكد رئيس الجمهورية التزامه بالمواعيد الدستورية، فيما باشرت وزارة الداخلية بتشكيل لجان تحضيرية في مختلف المناطق.

لكن، في بلدات البقاع وجنوب لبنان، لا يبدو الحماس الانتخابي متوازياً مع هموم الناس.
هناك، حيث يهيمن الدمار، وتُفتقد أبسط مقومات العيش، يشعر المواطنون أن الانتخابات ليست أولوية، بل عبء إضافي عليهم. ولا يمكن لومهم على ذلك، فمن الطبيعي أن يغيب حماسهم في بيئة يهيمن عليها غبار الحرب.
الانتخابات واقعة بين “وَيلين”
في قرى البقاع، لا يزال الدمار يتصدر المشهد. فلا مشاريع إعمار، ولا خطط تعويض، ولا حتى صيانة للبنى التحتية الأساسية.
وهنا تتجلى الحيرة، فويلٌ لإجراء انتخابات لا تحمل للمواطنين سوى عبء إضافي وتفتح الباب أمام جولات جديدة من التناحر السياسي، وويلٌ لعدم إجرائها، بما يعنيه ذلك إبقاء الناس أسرى الحرمان، بلا طرقات، بلا كهرباء، وبلا سقف يأويهم.
في بلدة سرعين البقاعية، يروي وائل حرب، قصته مع المعارك التي سرقت منه منزله وفلذة كبده، ليعقب ذلك بالكشف عن جزء من فساد المجلس البلدي الحالي في البلدة.
ويقول عبر منصة “نقِد”: “ربما تعوّضني الأيام عن المنزل، لكن خسارة ابني لن يعوّضها شيء، فإنها حسرة لن تزول ما حييت”.
حزن وائل الشخصي دُجّج بالفساد البلدي، ليتحول إلى غضب اجتماعي وسياسي، وبات يرى في المجلس البلدي الحالي تجسيداً للفساد وغياب الكفاءة.
هذا الغضب لم ينتج من فراغ؛ فالمساعدات الإنسانية الدولية التي وُجِّهت إلى البلدية لدعم المتضررين، تم توزيعها على أقارب أعضاء المجلس البلدي، بينما حُرم منها أفراد مثل وائل، تضرروا بقدره وربما أكثر.
“الناس هنا لا تطلب أكثر من كرامة العيش”؛ جملةٌ، اعتبرها وائل تُجسّد واقع كثيرين مثله، فيما يرى أن “الانتخابات البلدية المقبلة يجب أن تكون نقطة تحول”. والحل بنظره هو “الحصول على مجلس بلدي نزيه، أولويته رفع الأنقاض، وتأمين الكهرباء، وتزفيت الطرقات، والأهم تسهيل رخص الإعمار من دون عراقيل أو رشوة”.
وائل لا يتحدث بلسان حاله فقط، بل يُعرب عن صوت شريحة واسعة من المواطنين الذين فقدوا الثقة في المجالس المنتخبة، ويعتبر أن الانتخابات لن تحمل أي قيمة إذا لم تؤدِّ إلى تأسيس إدارة محلية شفافة، تخدم مصالح المواطنين، بدلاً من أن تكون خاضعة لسلطة حزب أو زعيم.
اقتراحات قانونية لتعديل الصيغات الانتخابية
بين ويلٍ وآخر، يسعى كلٌّ لتبرير أطروحاته. ففي الوقت الذي تُعدّ فيه الانتخابات البلدية ضرورة للبنان، خاصة لإعادة إعمار ما دُمّر جراء الحرب الأخيرة، يرى النائب مارك ضو الذي لطالما حمل راية الإصلاح القانوني الانتخابي، أن “القانون الحالي يشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق عمل بلدي فعّال”.
وفي حديثه عبر “نقِد”، يؤكد ضو أن “قانون الانتخاب البلدي بصيغته الحالية لا يعكس الواقع الفعلي للمجتمعات المحلية، ولا يراعي متطلبات مرحلة ما بعد الحرب، بل إنه يقود فقط إلى التفكك، ويعيق تشكيل فرق عمل متجانسة، ما يؤثر مباشرة على أداء البلديات”.

وبرأيه، إن تطبيق نظام “اللائحة المقفلة” هو الحل الأمثل؛ إذ يتم انتخاب لائحة كاملة تطرح برنامجاً موحداً وتضم ممثلين عن العائلات والمجموعات وفق الأعراف المحلية. ويرى أن هذا النموذج يضمن تشكيل فريق عمل متناغم قادر على تنفيذ خطط إنمائية بدلاً من الانزلاق في صراعات داخل المجلس نفسه.
لكن التحدي لا يقتصر على القانون فقط، بل يمتد أيضاً إلى الإطار المالي. في هذا السياق، يقول ضو إن “سقف السحوبات المتاح للبلديات لا يتعدى 12 مليون ليرة لرئيس البلدية و100 مليون للمجلس، وهذا رقم غير منطقي، خاصة في ظل الغلاء والانهيار الاقتصادي”.
وبهدف تمكين البلديات من تنفيذ مشاريع فعلية، خصوصاً في المناطق المنكوبة، تقدّم ضو باقتراح قانون لرفع السقف إلى 100 مليون ليرة لرئيس البلدية ومليار ليرة للمجلس.
ويعتبر أن “الإصلاح الإداري لا ينبغي أن يقتصر على البلديات الصغيرة التي تفتقر إلى الموارد البشرية، بل يجب أن يبدأ من اتحادات البلديات الكبرى. ويؤكد أهمية المضي قدماً في إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة، التي تتيح للمجالس المحلية صلاحيات أوسع وتمكنها من تحقيق مداخيل مستقلة”.
فوضى إدارية ومشاكل نفسية
بعد الحديث عن التباينات والانقسامات حول مسألة إجراء الانتخابات البلدية، حان دور الحديث عن الكوتا النسائية التي يغيب طيفها عن قانون البلديات، (التعديل الأخير لقانون الانتخاب في العام 2017) وذلك على الرغم من التعديل الأخير لقانون 2017، الذي أتاح للنساء الترشح في بلدتَي قيدهن الأصلي والزواجي، ما عزز فرص التمثيل.
وعلى إثر ذلك، قررت الدكتورة علوم عودة، الأستاذة الجامعية ورئيسة جمعية “حقي أورث” من بلدة الخضر في بعلبك، خوض المعركة الانتخابية، وأعلنت عن ترشحها للانتخابات المقبلة بشكل مستقل، وقالت إن “قرارها لا ينبع من رغبة في السلطة، بل يأتي استكمالاً لمسار طويل من العمل الاجتماعي”.
“الأمان، المواطنة الفعالة، والدعم النفسي”، ثلاثةُ أمورٍ ترى عودة وجوبَ تصدّرِها أولوياتِ المشاريعِ البلدية، معتبرةً أن “الناس اليوم، بعد الحرب، ليسوا بحاجة إلى خدمات بلدية تقليدية فحسب”.
وتشير إلى أن “البلديات الحالية في المنطقة غابت تماماً عن أداء أي دور في الدعم النفسي للسكان، وهو غياب كارثي في مرحلة ما بعد الحرب”.
وتسرد تجربتها مع الفوضى التي تعاني منها بلدتها، سواء في منح رخص الإعمار أو تنظيم الأراضي، وتلفت إلى أن المزارعين كثيراً ما يتعدون على الطرقات العامة ليس من سوء نية، بل نتيجة غياب الإرشاد البلدي والتخطيط، وتؤكد أن “الخلل ليس في المواطن، بل في الإدارة”.
تأجيل الانتخابات… سيناريو مكرر منذ 7 عقود
منذ 1952 لم تُجرَ في لبنان سوى ست دورات انتخابية بلدية، (1952، 1963، 1998، 2004، 2010، و2016) ما يدل على تكرار سيناريوهات التأجيل.
في هذا الإطار، يوضح رواد منذر، الخبير في الشأن الدستوري أن “التأجيل قانونياً ممكن بموجب قانون صادر عن مجلس النواب، كما حصل في 2022 و2023، لكن هذا لا يعني أنه مبرر دائماً”.

لكن اليوم، لم يعد التأجيل خياراً مطروحاً، فإجراء الانتخابات في هذه المرحلة يشكّل ضرورة وطنية ملحّة، لا بهدف تجديد المجالس فحسب، بل لتفعيل دور البلديات في مسار إعادة الإعمار، بدءً برفع الأنقاض، ومروراً بتنسيق عمليات المسح مع الجيش والجهات المانحة، وصولاً إلى منح رخص البناء ومتابعة توزيع التعويضات.
ويشير منذر إلى ثغرة بارزة في أداء بعض البلديات خلال الحرب الأخيرة، التي غابت عن القيام بواجبها في عمليات الإحصاء والمسح، ما فتح المجال لتدخل جهات كمجلس الجنوب خارج صلاحياتها القانونية، نظراً لاتساع رقعة العدوان. ويرى أن غياب الكادر البشري المؤهل، وضعف التمويل، والتجاذبات السياسية، شكلت عوائق حقيقية منعت البلديات من القيام بدورها كما يجب.
استحقاق مفصلي لبناء الحجر والبشر
مع كل ما سبق، تتجاوز الانتخابات البلدية المقبلة كونها مجرد استحقاق انتخابي عابر، لتصبح لحظة سياسية واجتماعية محورية؛ إذ إنها فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين الناس والدولة، لا سيما في المناطق المتضررة من الحرب. فالناس هناك لا يتطلعون إلى وعود انتخابية أو شعارات جوفاء، بل يبحثون عن مجالس بلدية فعّالة ونزيهة، قادرة على تقديم خطة إنقاذ حقيقية للقرى المنكوبة.
إن هذا الاستحقاق لا يمكن أن يُنظر إليه بمعزل عن مسار الإصلاح الشامل في البلاد، بدءً من قانون الانتخاب، مروراً بالإدارة المحلية، وصولاً إلى مسألة اللامركزية. فعلى الرغم من حجمها الصغير، تبقى البلدية المرآة الأقرب لحياة المواطنين، وصوتهم الأول في مواجهة الإهمال والفساد.
وكما يقول وائل حرب: “لا نطلب أكثر من كرامة العيش”. وكما تعتبر الدكتورة عودة: “بناء الإنسان أولوية لا تقل عن بناء الحجر”. وكما يرى النائب ضو: “لا بلدية قوية من دون صلاحيات وقانون انتخاب عادل”.
إعادة الاعتبار للعمل البلدي ليست خياراً بل ضرورة، فهي المدخل الفعلي لإعمار ما دمرته الحرب، ليس فقط على مستوى البنية التحتية، بل أيضاً في نفوس الناس وعقدهم الاجتماعي. والانتخابات المقبلة، إن حُسّنت إدارتها، قد تكون بداية هذا المسار الطويل والشاق.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي