


انتخابات بلا تشطيب لإغلاق بازار المصالح
مايو 6, 2025
A-
A+
بعد غيابٍ دام تسع سنوات، يشهد لبنان اليوم عودة الانتخابات البلدية في ظل زخم غير مسبوق للمرشحين. هذا الغياب ولّد حماسة لدى الناشطين والمثقفين والفاعلين في المجتمع من مختلف الطوائف، للمشاركة في هذا الاستحقاق. لطالما كانت الانتخابات البلدية في لبنان عرضة لعشوائية اللوائح، من دون أي خطة عمل واضحة تُكسب المرشحين ثقة الناخبين، إذ كان التركيز منصبًا على المناصب والصورة الخارجية للأفراد داخل مجتمعاتهم. وبفعل هذه الصورة الهشّة، بقيت المخاوف قائمة بشأن تطبيق “العيش المشترك” والمناصفة داخل اللوائح، خشية تكرار ما حدث في طرابلس العام 2016، حين غابت الطائفتان المسيحية والعلوية عن المجلس البلدي نتيجة تشطيب الأسماء.
في هذا السياق، يُعد اعتماد نظام اللائحة المقفلة خطوة نحو التنظيم لا الإقصاء، واقتُرح هذا النظام بهدف ضمان مناصفة فعالة وتنافس حقيقي بين اللوائح، ما يدفع المرشحين المنسجمين ضمن اللائحة الواحدة إلى صياغة خطة عمل ومشروع انتخابي واضح يصب في مصلحة المناطق. ومن هنا، يبرز الدور الأساسي للناخب، إذ إن صوته لا يُمنح على أساس المحسوبيات العائلية أو الفئوية، ولا يُشتّت بالتشطيب، بل يذهب إلى فريق متكامل بمشروع موحد. وهكذا يتحوّل الاستحقاق الانتخابي إلى معركة إنمائية منتجة، لا ساحة صراعات لبعثرة الأصوات.
من الجدير ذكر أن هذا الطرح ليس بجديد على النظام البلدي؛ فقد كرّسه رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري، الذي حافظ على مناصفة المقاعد في بلدية بيروت بين المسلمين والمسيحيين لسنوات، في سبيل ترسيخ أحد ركائز الحياة السياسية في لبنان. ويرى البعض أن إعادة تفعيل هذا العرف في مختلف المناطق، أو حتى تعديل قانون البلديات، يشكّل تقييدًا للتمثيل الشعبي وإلغاء لمعيار الكفاءة وحرية الاختيار، مع العلم أن هذه الحرية لا تُقاس بتفصيل الورقة الانتخابية، بل بوجود خيارات متكاملة بين اللوائح المتنافسة.
المطلوب اليوم ليس تفصيل اللوائح على قياس القوى، بل مساءلة من يشكّلها: هل يمتلك رؤية؟ هل ينخرط في حوار مع الناس؟ هل يقدّم خطة قابلة للتنفيذ؟ ما يُنتقد اليوم باعتباره تقييدًا، قد يكون في الواقع محاولة لتنظيم فوضى مزمنة أطاحت بمفهوم الانتخابات، وحوّلتها إلى بازار للمصالح الضيقة. ما نحتاجه اليوم ليس إسقاط التوازن، بل ترشيده وتفعيله عبر تضامن المرشحين، لتكون المشاريع الإنمائية هي التعبير الحقيقي عن صوت الناخب نحو الإصلاح.
يفرض الواقع الحالي على لبنان التقدّم، ولو ببطء، نحو تطبيق ما تبقّى من اللامركزية الإدارية الموسّعة المنصوص عليها في اتفاق الطائف. وفي هذا الإطار، لم يعد دور البلديات يقتصر على الجانب الخدماتي، بل بات يشكّل ركيزة أساسية في إعادة بناء الدولة وتجاوز الفشل المركزي. فمع وجود مرشحين كفوئين، يصبح بإمكان البلديات إدارة مشاريع، توقيع شراكات، والتنسيق المباشر مع المانحين الدوليين والمجتمع المحلي. ولم تعد وظيفة العضو البلدي مقتصرة على “التعزيل” و”الإضاءة”، بل بات مطلوبًا منه التخطيط، التنفيذ، والمراقبة.
من هنا، تبرز أهمية اللوائح المقفلة، إذ إن انتخاب مجلس متجانس يمتلك رؤية موحدة وبرنامج عمل واضح هو شرط أساسي للنجاح. ومع غياب هذا النظام الانتخابي عن البلديات، تطرح تساؤلات عدة حول نتائج هذه الانتخابات ومدى جديتها في المرحلة المقبلة، بعد انتهاء هذا الحفل الانتخابي. فكيف نبني مجالس بلدية قادرة على استعادة التوازن والحكم الرشيد، في ظل نظام انتخابي غير متوازن؟
ليست المسألة في شكل الورقة الانتخابية، بل في المعنى السياسي والإداري الذي نرغب في منحه للبلدية: هل نراها مجرّد فضاء خدماتي مؤقت، أم سلطة محلية فعلية تُخطّط، تُنفّذ، وتُحاسب؟
في النهاية، إصلاح النظام البلدي ليس ترفًا، بل ضرورة لمواجهة التحديات المحلية المتراكمة. والانتقال من منطق الزبائنية إلى منطق الإدارة يبدأ من صندوق الاقتراع، لكنه لا ينتهي عنده.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي