“لولا الهاء”.. لا ديمقراطيّة في لبنان بلا رضى نبيه

يونيو 10, 2024

A-

A+

عامًا وثمانية أشهرٍ من دون رئيس جمهوريّة، ولم يعد هذا الأمر غريبًا عن اللّبنانيّين الّذين اعتادوا أنّ لا كلمة للدّستور في بلادهم ولا وجود لِما ينظّم الحياة السّياسيّة في لبنان بل تسود شريعة الغاب حيث الأقوى يفرض قراره حسب مصالحه. وهذا نهجٌ يأمل حزب الله وحلفائه في محور الممانعة في تثبيته منذ انتهاء “الوصاية” السّورية في العام 2005 وكأنّها لم تنتهِ.

كان الفراغ مُتَوقّعًا منذ ما قبل انتهاء ولاية الرّئيس ميشال عون، ولكن من غير المعقول السّلوك السياسي الّذي انتهجه الثّنائي الشّيعي في مثل هذه الظّروف حيث تحتاج المصلحة اللّبنانيّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى عودة الحياة السياسيّة إلى مسارها الطّبيعيّ ليعاد تنظيم وتسيير مؤسسات الدّولة ووضع خطّة تُخرج البلاد من أزماتها المتراكمة.

يبدو أنّ محور الممانعة قد أخرج عبارة “المصلحة اللبنانيّة” من قواميسه حيث أثبت على مرّ السنين أنّ مصالحه غير اللّبنانيّة هي الّتي تُتَرجَم في إدارته للمؤسّسات الّتي يسيطر عليها وفي سلوكيّاته وتعاطيه مع باقي اللّبنانيّين، وما يُجاهَر به على لسان قادته وسياسيّيه وصحافيّيه. فبات من الطبيعيّ عند هذا المحور إقفال مجلس النّواب، المُنتَخَب من الشّعب اللّبنانيّ بكلّ أطيافه، بالإضافة إلى الدّفاع عن هذا التصرّف وإتّهام الآخرين بجريمة عدم الإنصياع إلى مطلب “الحوار”، وهو عرفٌ يُراد فرضه على قاعدة “لا ديمرقراطيّة في لبنان من دون رضى رئيس المجلس، ومَن وراءه”.

هذه القاعدة قريبة كل القرب إلى منطق المافيات وبعيدة كل البعد عن منطق الدّولة، ولم تصل بعد إلى أن تصبح عرفًا، وهذا الأمر يُسجَّل بالفعل إلى فريق المعارضة حاليًّا، والّذي يُسجَّل له أيضًا تعاطيه مع الواقع بمنطق الدّولة والتزامه اللّعبة الدّيمقراطيّة عبر دعمه لعدّة مرشحين والتّسويق لهم بين الأطراف السياسيّة مع انفتاحهم على أسماء أخرى، كما يجب أن يحصل في أيّ دولةٍ ديمقراطيّة، بالإضافة إلى عدم الوقوع في فخّ الممانعة الّتي لا تريد رئيسًا إلّا مرشّحها الوزير السّابق سليمان فرنجيّة، مُتمسّكةً بشرط الحوار الّذي تأمل من خلاله أن يرضخ عدد كافٍ من النّواب إلى هذا الشّرط ترغيبًا أو ترهيبًا.

فأقفل الرّئيس برّي أبواب المجلس ولم يعد يفتحها للدّعوة إلى جلسة انتخاب رئيس إلّا في النّوادر عندما يتأكّد من أنّ هذه الجلسة لن تنتج دخانًا أبيضًا معاكسًا لرغباته وفريقه، ومازال يتحدّث عن حوار برئاسته تأمينًا “للمصلحة الوطنيّة” حسب تعبيره.

وكأنّ حربًا مَحَت قُرى جنوب لبنان وتهدّد بتدمير باقي المناطق اللّبنانيّة لم تكن تقتضي حوارًا مع سائر اللّبنانيّين للوقوف على وجهة نظرهم حول بدء هذه الحرب. أو أنّ إرسال مواطنين لبنانيّين إلى جبهات الشّرق الأوسط خلال السّنوات الماضية من سوريا والعراق إلى اليمن للدّفاع عن أنظمة ديكتاتوريّة وتأمين مصالح الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة لم يكن يستوجب أخذ آراء شركائهم في الوطن حول إمكانيّة إقحام لبنان في صراعات المنطقة وإستقطاب الإرهابيّين إليه لتنفيذ عمليّات إنتقاميّة، كما معاداة جميع أصدقاء لبنان وإخراجه من قائمة البلدان الصّديقة للمجتمع الدّولي.

الإشكاليّة الكبرى اليوم تكمن في أنّ فريق الممانعة يتجاهل بشكل متعمّد المصلحة الوطنيّة الحقيقيّة الّتي تحتاج إلى عودة هذا الفريق إلى لبنانيّته وإعتماد نهج جديد يتجاوز المصالح الفئويّة والإرتباطات الخارجيّة لإعادة تفعيل المؤسسات الدّيمقراطيّة بما يتناسب مع الدستور اللبنانيّ.

فما يزيد الأمور تعقيدًا هو تشابك الأزمة اللّبنانيّة مع الأزمات الأقليميّة والدوليّة، ممّا يجعل الحلول المحليّة غير كافية لأنّ موقف حزب الله وحلفاءه لا يعبّر فقط عن سياسة محليّة، بل هو جزء من استراتيجيّة أوسع ترتبط بمصالح أقليميّة ودوليّة. لذا فإنّ الحلول تتطلّب أيضًا مقاربة دوليّة تعمل على تقليل التّدخلات الخارجيّة ودعم المبادرات الّتي تعزّز السيادة اللّبنانيّة. فعلى المجتمع الدّولي أن يلعب دورًا في الدّفع نحو الإلتزام بالمسار الدّيمقراطي وإحترام الدستور، من دون تقديم أيّة تنازلات أو نسج أيّة إتفاقيّات تضرّ بمصلحة لبنان.

ختامًا، إنّ لبنان يقف على مفترق طرق مصيريّة وتاريخيّة، وقد ظهر ذلك بوضوح مع ما سُرّب عن الموفد الفرنسي جان ايف لودريان بأنّه في حال لم يُنتَخَب رئيس وبقيت الأزمة على حالها، “لبنان السياسي سينتهي، ولن يبقى إلّا لبنان الجغرافي”. فإمّا أن ننجح في تخطّي أزماته عبر تفعيل الحياة السياسيّة، وإعادة بناء الدّولة على أسس ديمقراطيّة، أو يستمرّ في الإنحدار نحو المزيد من الفوضى والشلل السياسي. ومن المؤكّد أنّ ما قيل في الختام ليس خافيًا على محور الممانعة، بل يبدو أنّه يتجاهله، ربّما رغبةً في الوصول إلى هذه النتيجة.