سرديّة الشرق الأوسط الجديد

يناير 24, 2025

A-

A+

منذ الخرجة الإعلامية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد يومين فقط من عملية “طوفان الأقصى”، عاد مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” ليطفو على السطح، محدثًا جدلًا واسعًا في الأوساط الإعلامية والأكاديمية الغربية. هذا المصطلح الذي كاد أن يختفي من النقاش العام، عاد ليستخدم مجددًا في محاولة لشرح التحولات الطارئة في المنطقة أو للتنبؤ بمستقبلها، خاصة بعد دخول أطراف جديدة على خط المواجهة، مثل حزب الله، والحوثيين، وإيران. لكن مع هذا الاستخدام المتكرر والمتجدد للمصطلح، يبرز سؤال تأملي يستحق الطرح: هل ما زال مشروعًا استخدام مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” لوصف التحولات الراهنة؟

تاريخية المصطلح: رؤية إسرائيلية جلية

يُظهر البحث في الخلفيات التاريخية لمفهوم “الشرق الأوسط الجديد” أنه يعكس بالأساس رؤية إسرائيلية لمستقبل المنطقة. فقد طُرح هذا المفهوم لأول مرة في كتاب أصدره رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز عام 1993 تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد”، بالتزامن مع محادثات اتفاقيات أوسلو. من خلال هذا الكتاب، قدّم بيريز تصورًا لمستقبل المنطقة قائمًا على فكرة شراكة تجمع بين إسرائيل والدول العربية، داعيًا هذه الأخيرة إلى تبني نموذج العلاقات المصرية الإسرائيلية، عبر بناء علاقات اقتصادية وتكنولوجية تُسهم في تحقيق ما وصفه بالسلام والتنمية المشتركة.

وظل المصطلح حاضرًا في الخطاب الغربي، سواء في الأوساط السياسية أو الأكاديمية. ففي عام 2006، أعادت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس استخدامه خلال حديثها عن الحرب بين حزب الله وإسرائيل، واصفة ما يحدث بأنه “ولادة قاسية لشرق أوسط جديد”. ولم يتوقف استخدامه عند هذا الحد، بل واصل ظهوره في التقارير الاستراتيجية، مثل تقرير نشره مركز كارنيغي للسلام الدولي عام 2008، حيث قدّم تقييمًا للسياسة الأمريكية في المنطقة، مرفقًا بتوصيات تهدف إلى إعادة توجيه هذه السياسة بما يتماشى مع التحولات الإقليمية.

وإبان ما سمي بـ”الربيع العربي”، شهدت المنطقة موجة جديدة من التحولات البنيوية، دفعت العديد من مراكز الأبحاث إلى محاولة استشراف مستقبل المنطقة من منظور هذا المفهوم. على سبيل المثال لا الحصر، أصدر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي سلسلة من الدراسات حول تأثير هذه التحولات على الأمن القومي الإسرائيلي. ومن بين هذه الدراسات، برزت مقالة لمايكل ميلشتاين بعنوان “شرق أوسط قديم جديد: التطورات الحالية وآثارها على إسرائيل”، وأخرى لمارك هيلر بعنوان “شرق أوسط جديد؟”.

إحياء متكرر لمنظور تاريخي

بالنظر إلى تكرار استخدام مصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، يتضح أنه يعود إلى الواجهة مع كل موجة من التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة. وعلى الرغم من تغيّر السياقات السياسية، إلا أن هذه الرؤية الإسرائيلية، التي وضع أسسها شمعون بيريز، ما زالت حاضرة، وإن ظهرت بصيغ محدثة تتماشى مع المستجدات الإقليمية. ويبدو أن الغاية الأساسية من هذه الرؤية هي تعزيز النفوذ الإسرائيلي على المستوى الإقليمي، من خلال فرض أجندة سياسية واقتصادية تسعى إلى تشكيل ملامح المنطقة وفق مصالح تل أبيب، بدلًا من أن تبقى إسرائيل في موقع الطرف المتلقي للتغيرات التي تفرضها القوى الإقليمية الأخرى.

في هذا السياق، أشار المفكر عزمي بشارة، في مقالته الشهيرة “لبنان بين الشرق الأوسط الكبير والجديد” الصادرة عام 2006، إلى أن مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” يُجسّد رؤية إسرائيلية قديمة تقوم على فكرة إيجاد ما يُعرف بـ”العرب المعتدلين”، الذين لا يكتفون بتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل، بل يتعاونون معها في مواجهة أطراف عربية أخرى. ورغم أن هذا السيناريو بدا بعيد المنال حينها، إلا أن التطورات الأخيرة، وخاصة ما أورده الصحفي بوب وودورد في كتابه “الحرب”، كشفت كيفية انخراط بعض الأطراف في هذا المشروع بعد عملية “طوفان الأقصى”. ومع ذلك، يبقى من الصعب الحديث عن دوافع موحّدة تجمع بين مختلف البلدان التي أقدمت على تطبيع علاقاتها مع تل أبيب، وهو ما يجعل من الضروري التعمق في فهم السياقات الخاصة بكل دولة، بعيدًا عن التعميم، خاصة في إطار مقالة مقتضبة لا تسع للخوض في تفاصيل هذه الديناميات المعقدة.

الحاجة إلى قراءات جريئة وموضوعية للواقع بدل استيراد المصطلحات

إن الاستمرار في استخدام مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” يثير إشكالية جوهرية تتعلق بمدى قدرة النخب السياسية والفكرية في المنطقة على إنتاج “مفاهيم محلية” تستجيب للواقع الإقليمي وتساعد في تحليل التحولات الجارية بعيدًا عن التبعية الفكرية، التي تؤدي بدورها إلى تبعية سياسية واقتصادية. فالاكتفاء بتبني المصطلحات والتصورات المستوردة دون مراجعة نقدية يعكس غياب قدرة هذه النخب على قراءة واقعها بموضوعية ووفق مقاربات تستند إلى أولوياتها المحلية.

ومن هنا، فإن الإجابة على السؤال المحوري المطروح في البداية –“هل ما زال مشروعًا استخدام مصطلح الشرق الأوسط الجديد؟” –تعتمد أساسًا على قدرة النخب على إعادة بناء تصوراتها وفق معطيات الواقع المحلي، بدل الاستمرار في إعادة إنتاج مفاهيم مفروضة من الخارج. فالمطلوب اليوم هو التحرر من الشعارات المعلّبة والمقولات الجاهزة، والانتقال إلى تحليل معمّق يأخذ بعين الاعتبار التحولات البنيوية الداخلية، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو اقتصادية.

وعليه، يصبح من الضروري أن تتبنى النخب نهجًا نقديًا وواقعيًا يتجاوز التعصب الفكري ورفض أي محاولة لمراجعة الذات. فبدل التذرع المستمر بورقة “الخطر الخارجي” و”المخططات التخريبية”، يتعين عليها إنتاج رؤى تحليلية شاملة تدمج في قراءاتها التحولات الداخلية التي تحدث داخل دولها، سواء على المستوى السياسي، الاجتماعي، أو العسكري. بكلمات أخرى، إذا أرادت هذه النخب أن تصبح فاعلًا حقيقيًا في تشكيل مستقبل المنطقة، فلا بد لها من الانتقال من موقع المتلقي إلى موقع المبادر، عبر صياغة نموذج محلي ينبع من احتياجاتها الخاصة. فالنخب التي تستمر في الاستهلاك الفكري دون إنتاج حقيقي تظل عاجزة عن التأثير في مسار الأحداث، وتبقى أسيرة ما يُنتجه الآخرون، سواء كانوا قريبين أم بعيدين.