باتمان بلا مدينة

مارس 11, 2025

A-

A+

كلبنانيين من بلاد عاشت أيضًا الكثير من النكبات، وكعرب من بين مئات الملايين من المُتفرّجين على أكثر الحروب وحشيّةً، مهما كانت طوائفنا وأحزابنا وتوجّهاتنا الفكرية والسياسيّة، نعي جيّدًا أنّه على بُعد بعض مئات الكيلومترات من حدودنا، يعيش غيرنا معاناة عمرها عقود من الزمن. لسنا مدعوّون لنحارب لأجلهم، ولا لنساند أيّة معركة هوجاء قد تقوم بها فئة “غير مسؤولة” من فئاتهم، لكن بالتّأكيد ممنوع علينا السّكوت عن حقّهم في الحياة، والسكوت عن هذا الحقّ هو بحدّ ذاته جريمة إنسانيّة.

نعي جيّدًا أنّه لا يعيش الجميع نفس المسار، ولا يحظون بنفس الفرص والخيارات والإمكانيّات، لكن تطغى بعض الظروف القاسية على حياة الكثير من البشر، منذ أوّل صرخة تطلقها أمّهاتهم، فيطلَقون إلى هذا العالم، إلى أرضٍ لم تطأها لا موازين العدالة، ولا بوادر الأمل.

هذا المقال ليس مقارنة بين الفقر والغنى، أو بين طبقات المجتمع، ولا بين إنسان ناجح وإنسان فاشل، بل بين مسارَين، الأوّل طبيعيّ والآخر ظالم لأبعد الحدود، بين طفل ولد ومستقبله مليء بالفرص والتحديات، وآخر ولد في قلب الهوة، هي مقارنة بين الحياة والموت.

عن أيّة فجوة نتحدّث هنا؟ عن تلك الّتي تملأ حياة الكثير من أطفال العالم، الّذين لا ذنب لهم سوى أنّهم وُلِدوا في الموقع الخاطئ من التاريخ والجغرافيا. وإلى جانب تلك الفجوة فجوة أخرى ، تتّسع بينهم وبين أطفال شاء لهم القدر أن يولدوا في موقع أفضل، أمّن لهم ما يستحقّونه. هي الفجوة ليست فقط في حياة كلّ طفل بينهم، بل بينه وبين أطفال آخرين، في بلادٍ أو قارّةٍ مختلفتَيْن، وكأنّ كل منهما يعيش على كوكب.

والمشكلة ليست في وجود الفجوة فحسب، بل في أنّها باتت فعلًا ميراثًا. فكأنّه قدّر لمجموعة من البشر أن تعيش في نفس الدوامة، فتلد جيلًا جديدًا ليعيش نفس الحلقة المأساويّة.

الفجوة: بين الحياة والموت

في مكانٍ ما في هذا العالم، يولد طفل في كنف عائلة تحيطه بجناحيها، عائلة تحيطه محبّة وعيشة كريمة، تبتسم حين يبتسم، وتبكي حين يبكي. تهدهده أمّه بنظراتها الحنونة، ويحضنه أبوه بين ذراعيه كأنّه أثمن الكنوز. يبدأ هذا الكائن الصغير رحلته بأول كلمة تتلعثم بها شفتاه، فتهلّل الوجوه والألسنة فرحًا، كما لو أنّ الكون توقّف للحظة ليُدوّن هذا الطفل صوته الأوّل في سجلّ الوجود. يتعثّر حين يخطو خطواته الأولى، فيهرع الجميع لالتقاطه، ثمّ يعود ليقف من جديد، واثقًا أكثر ممّا كان عليه قبل أن يسقط.

عالم الطفل بسيط، حدودُه ما تراه عيناه وما تسمعه أذناه وما تلمسه يداه. أنفه يختبر الروائح للمرة الأولى، وفمه يجرّب الأذواق، كلّ ما يخرج منه يكون رقيقًا وبريئًا. هذا هو المسار الطبيعيّ، حيث يكبر هذا الطفل عامًا بعد عامٍ، ويذهب إلى المدرسة، يتعرّف على أصدقاء وأعداء الطفولة، يتطفّل على أساتذته، يتأثّر بكلامهم وأفعالهم، ويتعلّم منهم قيمًا ومفاهيم لم يكن يدركها بعد. ويحلم وأحلامه بسيطة: أن يصبح طبيبًا، أو مهندسًا، أو باتمان ويخلّص العالم من المجرمين. العالم أمامه واسع، مليء بالفرص، والتحدّيات، والأمل.

في مكان آخر من هذا العالم، في غزة، في بقعة جغرافيّة تبدو وكأنّ لعنة حلّت عليها، يخاف الطّفل أن يحلم بطموح، لن يصبح طبيباً ولا مهندساً، حتى باتمان، لم يطر فوق تلك الأرض ولا حطّ في زواريبها، فهو لا يعرف أطفالها ولا هم يعرفونه.

يولد طفل في بيت حقير، لا تبدأ الحياة عنده بابتسامة العائلة وفرحة أوّل كلمة، بل تبدأ بشقّ الصرخةِ الأولى في منزلٍ بالكاد يقيه من برد الشتاء وحرّ الصيف. هناك يفتح الطفل عينيه فيرى جدرانًا قديمة مرّت عليها أكثر القصص تعاسةً وأشدّها هولًا.

ينسى أولياء أمره، لألف سببٍ وسبب، إنتظار كلماته الأولى، والإبتهاج لعثراته الطفوليّة، لأنّ العثرات هناك ليست جزءًا من مراحل نموّه، بل بداية لمسيرة مليئة بالعثرات. يخطو خطواته الأولى في الشارع على حجارة قاسية، حافيًا أو بأحذية مثقوبة.

ويستكشف الطفل بحواسه عالمًا مختلفًا، حيث لا ألوان للمنازل والمباني والشوارع، بل هي دائمًا رماديّةً يصحبها الدّمار أينما حلّت نظراته. ويدرك رائحة غبارٍ ساخنٍ خانقٍ، وصوت هديرٍ وطنين، وطعمًا لاذعًا وجافًّا يعلق في حلقه. فهو يختبر في كلّ لحظةٍ ما لا يشتهيه، وسرعان ما تقلّ حماسته على إكتشاف العالم، حيث لم يجد سوى ما يحتقره، سوى المصائب والمحن والألم.

الكلام ثمنه الموت

في المكان الأفضل من هذا العالم. تكبر مقاعد الدراسة كما يكبر المراهق وتكبر تطلّعاته وآماله، يبدأ الصراع الداخلي بين الطفل الّذي اعتاد أن يحظى بالرعاية والإنتباه، وبين الرجل أو الإمرأة الّذين عليهم أن يتحمّلوا مشاقّ الحياة. يدخل معتركي العمل والمنافسة، يبني مستقبله، ويسعى لتحقيق ذاته، يصطدم بالعقبات، ويتذوّق تارّةً طعم النجاح، وطورًا مرارة الفشل. هذه هي الحياة الطبيعيّة البسيطة، مزيجٌ من الحلو والمرّ، من الصعود والهبوط، من الإندفاع والإنتظار.

أمّا في المكان الآخر، في جباليا وخان يونس ودير بلح، فالطفل الّذي يُفترض أن يذهب إلى مقاعد الدراسة، عليه أن يتعلّم أوّلًا ما يهمّه ويحتاجه للنجاة. يتعلّم سبل الإختباء من رجال السلطة حين يقتحمون منزله بحثًا عن أبٍ أو شقيق. يتعلّم كيف يصمت لأنّ للكلام ثمنًا، وكيف يفهم أنّ الحلم رفاهيّة لا يملكها. وفي المدرسة، إذا كان محظوظًا بالذهاب إليها، يتعرّف على من يتبادل معه المقعد وكسرة الخبز، ويتقاسم معه طعم الجوع والخوف.

وهكذا، يتخرّج من صفوف المدرسة إلى سجنٍ أكبر، سجن لا جدران له، سجن يتجسّد في حياة يوميّة لا أفق لها. الأزمات هناك ليست إستثناء، بل هي حياته مهما اختار سبيلًا لها. الأزمة لا تأتي كطارئٍ مؤلم ثمّ تمضي، بل هي مسار بحدّ ذاته، مسارٌ يبدأ منذ أولى لحظات حياته.

ميراث من الظلم

هناك، تتقوّى أقدام الأطفال كما تشتدّ عظامهم، لكن ليس للركض خلف الأحلام، بل للهرب من الرصاص والقصف أو للوقوف طويلًا في طوابير الخبز. تتصلّب ملامحهم قبل الأوان، لا لأنّهم نضجوا، بل لأنّهم فهموا مبكرًا أن العالم ليس مكانًا آمنًا لهم. في تلك البقع، ينشأ الطفل ويكبر على وداع أزمة وإنتظار أخرى، فإذا انتهت أزمة، هو يعلم يقينًا أنّ أخرى ستليها، لأنّ الحياة هناك ليست دورة من الآمال والخيبات، بل سلسلة متواصلة من الحروب والحرمان.

الفجوة تتّسع بين طفلٍ تُفتح أمامه نوافذ الأمل، وآخر تُغلق عليه أبواب النّجاة. بين طفل يُقال له: “ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟”، وآخر يُقال له: “اصمت، فالكلام خطر!” بين مَن يتعثّر وهو يحاول ركوب درّاجة جديدة، وبين مَن يتعثّر وهو يحاول تفادي رصاصة طائشة. بين من يركض للّحاق بحلمه، وبين من يركض للنجاة بحياته.

في أحد الأحياء، يبكي طفل لأنّه لم يحصل على اللعبة الّتي يريدها، بينما في حيّ آخر، يبكي طفل لأنّه لم يحصل على ما يسدّ جوعه. في المدرسة، يشتكي الأوّل من الواجبات المدرسيّة، بينما يشتكي الآخر من خوفه من سؤال أحدهم عن قريبه المسجون. في المساء، ينام الأوّل على سريره الناعم مرتاحًا، بينما ينام الآخر على أنقاض ما تبقّى من غرفته.

فلا تكمن هذه الفجوة في اختلاف الأحلام، بل في اختلاف الحقّ بالحلم، فندرك أنّ أحدًا ما، في مكانٍ ما، ما زال يركض، لا وراء حلم، بل هربًا من كابوس.

بين الإنسانية واللامبالاة

كيف لنا أن ننظر إلى عيني ذاك الطفل الناشئ في أحد شوارع بيت حانون أو بيت لاهيا؟ طفلٌ قد يختفي من حياته من يرعاه ويُترك لسبيله، أو يفتك به مرض لا يعرف إسمه، أو يُقتل بشظيّة أو لغم أو رصاصة. مدرسته هي الطبيعة القاسية، والحياة الشاقّة الّتي لا ترحم. كيف لنا أن ننظر إلى عينيه ونحن نعلم أننا نعيش في عالم يسمح بوجود أطفال يموتون قبل أن يدركوا معنى الحياة.

كيف نعزّي ذاك الطفل المولود في حي تل السلطان أو حي الزيتون، حيث تنهش الحرب أوزارها منذ عقود، كما ينهش فقدان الأمل قلوب أبنائها؟ بعد عشرات الأعوام من التسلّط الوحشي والعزلة عن العالم، طفلٌ يفتح عينيه على الدمار، يسمع دويّ القصف، ويتعلّم أنّ الخوف هو رفيقه الدائم. كيف نعزّيه ونحن نعيش في أمان، بينما هو يبحث عن قطرة ماء؟

وكيف لنا أن نواسي ذاك الطفل اللّاجئ في الطالبية أو شاتيلا، الّذي يرى أطفالًا غيره يعيشون حياةً مختلفة تمامًا، تؤمّن لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب ومسكن، فيما ينشغلون بطفولتهم وبراءتهم؟ طفلٌ يحمل في قلبه جراحًا عميقة، وقد يشيخ وتبقى أبسط حقوقه في ذهنه أحلام.

وماذا ننتظر من ذاك الطفل الذي لم يعش كل مرحلة من مراحل حياته بهفواتها وخبراتها الفريدة، الّتي يستحقّ كلّ طفل على وجه هذه الأرض أن يعيشها؟ أليست طفولته وحياته تلك مليئة بالفجوات؟ وماذا ننتظر من إنسان ينهشه الخوف، تأكله المآسي، وتغلب عليه نظرة دونيّة إلى نفسه، فانتهت حياته قبل أن تبدأ. هو طفل يحلم بالسلام، بينما العالم من حوله يعجّ بالألم والحرب.

نداء إلى الإنسانية

الفجوة لن تُسد بين ليلة وضحاها، وقد لا تُسد أبدًا بوجود عالمين مختلفين، عالمان قد يتجاوران على نفس القارة أو في نفس الدولة، في المدينة نفسها وربما الحيّ نفسه. هي الفجوة لا تحتاج إلّا ليقظة بعض الضمائر الحيّة، والوعي بأنّ الحروب ليست مجرّد قرار الصراع على السلطة والأرض، بل تخلق جراحًا لا تندمل أبدًا، تسرق طفولة من لا ذنب لهم سوى أنّهم ولدوا في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ.

ما هو أهمّ من إتفافيات وقف إطلاق نار والبحث عن الحلول والسلام، أنّه لا يجب أن يعيش أطفال غزّة أو غيرهم نفس المحن والويلات كلما اندلعت حربًا أو شبّ صراعًا. وكأنّ المسارات التي نولد عليها ليست متساوية، بل خطوط مرسومة على بقعة جغرافيّة محدّدة، وعلى هذا الكوكب، توجد بقع اختيرت لتكون بقع حياة، وأخرى لتكون بقع موت.