زيتون الجنوب يحترق تحت قنابل الفوسفور

أغسطس 14, 2024

A-

A+

منذ بدء الحرب في 8 أكتوبر الماضي، تحوّلت الأشجار وخاصّة الزّيتون من رمز للصّمود والعطاء إلى شاهد حي على الدّمار. فهذه الحرب لم تقتصر على المنازل والممتلكات، بل امتدت لتضرب صميم الحياة الزراعيّة. فالجنوب، الذي طالما كان معروفاً بكروم الزيتون الممتدة على مد النظر، أصبح اليوم يواجه خسائر فادحة في أحد أهم مصادر رزقه.

لم تكن هذه الأشجار مجرّد مصدر رزق، بل كانت جزءاً من التراث والهوية، حيث يعود عمر بعضها إلى أكثر من 200 عام. وبالنّسبة لعدد أشجار الزّيتون التي حرقها القصف الفوسفوري فهي متفاوتة من مصدر لآخر، حيث أفاد تقرير لوزارة الزّراعة عن احتراق نحو 47000 شجرة، بينما جريدة “الأخبار” لفتت إلى أنّ “مهندسين زراعيّين في الجنوب وصفوا هذا الرّقم بـ”غير دقيق، ومبالغ فيه”، فتقرير الوزارة يعلن عن تدمير 52 هكتاراً من الزيتون، ووفق رأي المهندسين الزراعيين للجريدة، إنَّ كل هكتار يُزرع بـ300 شجرة زيتون كحدّ أقصى، ما يعني أنّ مجمل ما دُمّر لا يصل إلى 16 ألف شجرة”.

لكن رغم تفاوت الأرقام، تبقى الفكرة واضحة وهي أنَّ الجنوب فقد جزءاً من تاريخه، فهذه الكارثة البيئية لا تقتصر على تدمير الأشجار فحسب، بل تحمل في طياتها تداعيات أعمق على الاقتصاد والبيئة والمجتمع في الجنوب.

مع اقتراب موسم الزيتون، يجد المزارعون أنفسهم في مواجهة تحديات غير مسبوقة. وفي هذا السياق، يقول المزارع علي عبد الحميد من بلدة كفرحمام: “نعاني من القصف المستمر وارتفاع درجات الحرارة بشكل يومي. هذا العام، لم نفرح بموسم الصنوبر، فقد دفعنا مبالغ مالية للدولة للحصول على إذن لاستخراج الخشب وقطف ثمار الصنوبر، ولكننا لم نتمكن من الوصول إليه بسبب القصف، مع العلم أن حرائق كبيرة اندلعت في أحراج كنّا نستفيد من ثرواتها”.

ومع قدوم موسم التين، الذي كان الناس يترقبونه بشغف، تبقى الأرض غير متاحة بسبب الأوضاع الأمنية. وعلى الرّغم من تنوع المواسم الزراعية في المنطقة، إلا أن معظمها تأثر سلباً بالأحداث الجارية. ويشير عبد الحميد إلى أنَّ “استمرار الوضع على حاله يعني استحالة الوصول إلى البساتين خاصّة الزيتون في الموسم المقبل.”

من جهة أخرى، يقول المزارع هاني، أنّه حتّى عند الوصول إلى الأرض، يجدها غير صالحة للعمل بسبب الأضرار التي لحقت بها، ناهيك عن صعوبة تأمين المواد والمعدات اللازمة للزراعة بسبب الأمن غير المستقر والتّهديدات. ويضيف: ” نحن الآن نعاني من صعوبة كبيرة في إعادة زراعة الأرض، حتّى الأشجار التي نجت من الحرق، تعاني من تلوث التربة، مما يؤثر على نموها وإنتاجها، وبالتّالي إنَّ مصدر رزقنا مهدّد ومعاناتنا اليوميّة تزيد سوءاً”.

يؤكّد هاني أنّه كان يحقّق حوالي 10,000 دولار سنويًا من بيع الزيت والزيتون والعمل في الزراعة، لكن القصف الفوسفوري الّذي أحرق عشرات الأشجار، هدّد مصدر عيشه. كما يعبّر عن مخاوفه من صعوبة وصوله إلى البساتين ومعاصر الزّيتون التي تقع في المناطق المعرّضة للقصف، فإن العملية برمتها أصبحت أكثر صعوبة وتعقيدًا.

تشكّل خسارة أشجار الزّيتون ضربة قاسية لموسم الزيت والزيتون هذا العام، مما يؤثر بشكل مباشر على إنتاجية هذا المحصول الحيوي. هذه الخسائر تعكس استراتيجية مقصودة من قبل إسرائيل لزعزعة استقرار حياة المواطنين عبر إحداث أزمات غذائية واقتصادية. وتدمير هذه المحاصيل لن يؤثر فقط على توافر الزيتون، بل سيمتد تأثيره إلى الاقتصاد المحلي والمعيشة اليومية للأسر، مما سيؤدي إلى نقص ملحوظ في زيت الزيتون في الأسواق هذا العام.

يُظهر تقرير حديث صادر عن وزارة الزراعة أن لبنان يضم حوالي 13.5 مليون شجرة زيتون، تُستخدم 30% منها لإنتاج الزيتون الطازج، بينما يتم تحويل 70% منها إلى زيت زيتون. ولكن، بحسب المستشار الإعلامي والبيئي في جمعية نقطة فاصلة مصطفى رعد، فإنَّ تدمير أشجار الزّيتون يُعد كارثة حقيقية على الإنتاج الزراعي، خاصة وأن تكلفة كل شجرة زيتون معمرة تصل إلى حوالي 25,000 دولار. ويوضح رعد أن هذه الأشجار تحتاج إلى سنوات طويلة من الرعاية، وعادةً ما تنتج كل شجرة ما بين 25 إلى 40 كيلوغرامًا من الزيتون، حيث تصدر كل 25 كيلوغرامًا تنكة زيت تعادل حوالي 16 لترًا. ولا تتوقف الأضرار عند أشجار الزيتون فقط؛ فقد طال القصف أيضاً أشجار السنديان وغيرها من الأشجار المعمّرة. وكشف المجلس الوطني للبحوث العلمية أن القصف دمّر مساحات حرجية واسعة تُقدّر بحوالي 18 مليون متر مربع في الجنوب.

وفيما يتعلق باستخدام الفوسفور الأبيض، أكد رعد أن هذه المادة الحارقة ليست جديدة على لبنان. فقد استخدمتها إسرائيل خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وفي عام 1993، وعام 1996 في قانا، وأيضاً خلال حرب تموز 2006. ومع بداية الحرب الحالية، تم تسجيل أكثر من 230 اعتداء باستخدام الفوسفور الأبيض على الأراضي الجنوبية، وأكثر من 200 قنبلة حارقة، ما أدى إلى تفاقم الضرر البيئي والزراعي بشكل كبير.

يشكّل استخدام الفوسفور الأبيض تهديدًا بيئيًا خطيرًا، حيث تشير دراسة أجراها مختبر لبزراعة والبيئة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، إلى أن حوالي 10% من هذه المادة تبقى في التربة، مما يسبب تلوثًا يمكن أن يمتد إلى مجاري الأنهار. ويؤكّد مصطفى رعد أنَّ هذا التلوث لا يؤثّر فقط على التربة، بل يمكن أن ينتقل إلى الكائنات الحية في المياه الملوثة، مثل الأسماك، مما يؤدي إلى زيادة كمية المعادن الضارة التي قد تصل إلى جسم الإنسان عند استهلاكها، ممّا قد يسبّب التسمم أو حتى الوفاة في بعض الحالات.

ويستشهد رعد بما حصل في منطقة كوكبا بالجنوب بعد حرب 2006، حيث تم حرق كميات كبيرة من أشجار الزيتون من خلال حرق الأراضي بالفوسفور الأبيض. حينها المزارعون واجهوا صعوبة كبيرة في إعادة زراعة الأشجار، حيث كانت تموت بسرعة بعد زراعتها، واستغرق الأمر نحو خمس إلى ست سنوات حتى تعافت الأشجار وبدأت بالإنتاج من جديد. هذا يوضح حجم الضرر الذي قد يتكرر بعد الأحداث الحالية في 2024، حيث قد يستغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن يتمكن الناس من استهلاك الزيتون أو زيت الزيتون المنتج في الجنوب مجددًا.

من جهة أخرى، إنَّ الأضرار الناتجة عن استخدام الفوسفور الأبيض لا تقتصر على أشجار الزيتون فحسب، بل تمتد لتشمل جميع أنواع الخضروات والفواكه المزروعة في هذه المناطق، مثل الملوخية والبطيخ والفراولة، وكذلك الحمضيات كالليمون والموز والأفوكادو. وبحسب رعد، إنَّ هذا التدمير سيسبب انخفاضًا كبيرًا في كميات هذه المنتجات المتوفرة في السوق اللبناني، مما سيجبر البلاد على استيرادها من دول أخرى مثل سوريا والأردن لتعويض النقص والاعتماد على الرزنامة الزراعية، وبالتّالي إنَّ هذا الاعتماد المتزايد على الاستيراد سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ، وهو تأثير بدأ يظهر بالفعل في الأسواق اللبنانية وسيتفاقم مع مرور الوقت.

مع تزايد الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان، وخاصةً باستخدام القنابل الفوسفورية، يطرح النقاش حول شرعية هذا الاستخدام أسئلة ملحة. وفي هذا السياق، يؤكّد المستشار القانوني والخبير الجنائي الدولي د. ناجي سابق، أنَّ استخدام الفوسفور الأبيض يُعتبر انتهاكًا جوهريًا للقانون الدولي الإنساني، الّذي يستند إلى اتفاقية جنيف والبروتوكولات الملحقة، وكذلك للبروتوكول الثالث من اتفاقية الأسلحة التقليدية لعام 1983 والّذي يفرض قيودًا على الأسلحة الحارقة خاصّة كونها تلوّث البيئة. وبينما وقع لبنان على هذه الاتفاقيات، فإن إسرائيل لم تفعل ذلك وتعتبر استخدام الفوسفور الأبيض جزءًا من أهدافها العسكرية، مما يسمح لها بالتهرب من المسؤولية الجنائية والالتزامات الدوليّة.

ويقول سابق إنَّ الفوسفور الأبيض محرّم دوليّاً بسبب تأثيراته الضارة، إذ يسبب حروقًا شديدة، ويترسب في التربة، مما يؤدي إلى تلوث البيئة بشكل خطير. فاستخدام الفوسفور ضد المدنيين أو أراضيهم يشكل انتهاكًا واضحًا لهذا البروتوكول ويخالف القواعد العرفيّة التي تُلزم جميع الدول بالالتزام بها. ومع ذلك، يعاني البروتوكول الثالث من بعض الثغرات، حيث يُحظر استخدام القنابل الفوسفورية في القصف الجوي بموجب هذا البروتوكول، لكن إذا تم إطلاقها من الأرض، مثلًا عبر المدفعية، فإنها قد لا تُعتبر محرّمة بنفس القدر. هذه الثغرة تُستخدم أحيانًا لتفادي المسؤولية القانونية الدولية، مما يُبرز التحديات المستمرة في تطبيق القانون الدولي بشكل شامل وعادل في أوقات النّزاع.

ويؤكّد سابق أنَّ العدو الإسرائيلي يتجاوز القوانين الدّولية، فالأسلحة الفتاكة التي تُستخدم في غزة وجنوب لبنان تُعتبر وسائل حرب خطيرة، وينبغي على دول العالم الامتناع عن استخدامها. ويضيف: “إن هيمنة القوى الكبرى على مجلس الأمن، وتعطيله من خلال حق النقض (الفيتو)، تعزز من إفلات الدول المتورطة من المحاسبة وتجعلها غير ملتزمة بالقانون الدولي”.

في هذا الإطار، يشير د. ناجي سابق إلى أنَّه من الضروري أن تحث الحكومة اللبنانية المجتمع الدولي، وخاصة مجلس الأمن، للضغط على إسرائيل لوقف استخدام القنابل التي تلوث البيئة وتدمر المزروعات والأراضي، مع ضرورة تقديم ادعاءات دقيقة لمعايير الجرائم الدولية إلى محكمة جنائية دولية لتحريك القضاء الدولي ومحاسبة المسؤولين.

علاوة على ذلك، يجب على الدولة اللبنانية أن تتحمل مسؤوليتها في تقديم التعويضات والمساعدات المالية للمزارعين في الجنوب، خاصةً لأولئك الذين تقع أراضيهم على خطوط التماس والحدود. يجب أن يتضمن هذا الدعم مساعدات تعزز صمود المزارعين وتشجعهم على الاستمرار في عملهم، مما يساهم في استقرار القرى الجنوبية ويعزز قدرتهم على مواجهة التحديات.

لا شك أن الثروة الزراعية في الجنوب اللبناني تأثرت بشكل سلبي جراء الحرب، خاصةً أن الجنوبيين يعتمدون عليها لتأمين قوتهم اليومي. يبدو أن إسرائيل تسعى بكل جهدها لتدمير ما تبقى من خيرات الجنوب، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل البيئة في المنطقة بعد انتهاء النزاع. هل ستتمكن جهود إعادة البناء من استعادة التوازن البيئي والاقتصادي، أم أن آثار هذه الحرب ستظل تؤثر على الجنوب لسنوات قادمة؟ هذه التساؤلات تفتح المجال أمام ضرورة التفكير في استراتيجيات حماية البيئة وتعزيز القدرة على الصمود لمواجهة الأزمات المستقبلية.