فــي حَضـــرةِ اليُتـــم
سبتمبر 22, 2024
A-
A+
قرأت يوماً، أن أسوأ ما في آخر لحظة سعادة، أنك لا تعرف أنها الأخيرة، إلّا بعد نهايتها. قبل ذلك تكون لك لحظة عادية كسابقاتها. تحاول العودة إليها، وتفشل مهما حاولت، كمن يسابق التيار بعكس مساره.
لعلّ أخطر ما في الوقت إنه لا يستمع ولا يحكي.
لا يستمع لما تقوله، ولا لما يجري في حياتك ومن حولك. لا يعرف عنك شيء ولا يتأثر بشيء. لا يتوقف ليرى ما تمر به، يكمل بثبات عمله ويمضي قدماً، مهما حصل.
صامت هو الوقت، تنساه في خفقة الحياة والروتين، والأحداث التافهة. تنساه، وفي معظم الأحيان تعرف عند نفاذه أنه كان هنا. تعرف متأخراً أنه كان عليك أن تطيل الحديث يومها مع هذا الصديق الذي لم تراه بعدها.
أو أن تطلب فنجان آخر من تلك القهوة التي أقفلت أبوبها، أو أن تسمع الـ 54 ثانيةً كاملين من voice note أمك اليومي وهي تفسر أنها وضعت لك علبة الطعام والشوكة عليها، في أول درج من البراد كالعادة.
أو أن ترد على اتصال والدك عند الساعة 11 مساء، قبل أن ينام والذي سيقول لك فيه “وينك طلع الضو” وتنظر من حولك ولا ترى أي ضوء.
لم تعرف وقتها أنها آخر مرة ستلعب مع أخاك الأتاري قبل أن تصبح اللعبة قديمة، غير دارجة مع أنك كنت تحبها، ثم يكبر أخاك وينشغل بعيداً وتكبر أنت.
لم تعرف وقتها أنها ستكون المرة الأخيرة التي ستصنع فيها بيتاً من الوسادات والألحفة في منزل جدتك قبل أن تنام عندها كما كنت تفعل كل جمعة وسبت.
لم أعرف أننا سنعيش بزمن الحجر والكورونا، وعندما عرفت، لم أعرف إني سأفقد والدي، وعندما فقدته، لم أعرف إني سأكبر بهذه السرعة بعدها.
لم أكن صغير السن كثيراً عند خسارة والدي، في العام 2021 كان عمري 22 عاماً، كنت تخرجت حديثاً من الجامعة، توظفت في مكان يعني لي وأحبه. هبط الفيروس على الكوكب، وصل لبنان، وصل بيتنا، دخل والدي المستشفى، توفي بعد أقل من أسبوعين. فجأة شعرت كأن أحداً أخذ من فوقي الغطاء في ليل بارد من شباط.
قبلها لم أكن أعرف أن الغطاء موجود، ولا إني كنت دافئ وسط الصقيع. قبلها تظن أنك كبير، تدير كل شيء في حياتك، ثم تكتشف تباعاً بعدها ما يعني فعلاً أن تكبر وتدير حياتك. تدرك بعدها أن العالم من حولك معظمه بشع والناس غير لطيفين، كثر لا يريدون لك الخير.
صعب أن تواجه وحدك الدنيا خاصة هنا في لبنان، وأسوأ صراع هو الذي تخوضه مع ذاتك، أنت في هذه المرحلة، حيث تريد أن تحمي من تحب من أخطار البلد والحروب، لكنك تريد أيضاً أن تحتمي بكتف، تضعف، تكبي، تقول إنك خائف، محبط، ربما وحيد رغم كل الضجيج من حولك.
إنه اليُتم. صعب أن تخسر والدك، وأن تخسر إيمانك ببلدك، وقضاياه، وأن تخسر حبك لأرضك، وأن تخسر قناعاتك القديمة كلها في وقت قصير. تشعر عندها باليتم الفعلي. لا تجد حولك من يأخذ عنك بعض الحمولات الزائدة، ولا تجد في المشهد العام من يعطيك أملاً بأن شيئاً ما، جيد، سيحدث بعد كل الأشياء السيّئة.
تكتشف أن هذا هو طعم الحياة الفعلي، فأنت كبرت الآن وأصبحت وحدك، أنت الآن فعلاً تدير حياتك، وتدير أفكارك ومخاوفك، دون أي إرشاد، أو توجيه.
ستفشل وحدك وتنجح وحدك، وستحاول اللحاق بالوقت، وسيسبقك وستبقى تفكر بالعودة إلى بيت الوسادات، وبيت جدتك ومشاكلك الصغيرة، لكنك ستجد نفسك في بيت من حجر، ومدينة من حجر وقلوب من حجر وفي وسط حجارة الدنيا ستجد أمك وحدها لينة وردية، تأملها، احفظ معالمها واستفد مها، فهي النعومة الوحيدة في عالمٍ قاسٍ.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي