100 يوم مرّت: عن الحرب التي قتلت شيئًا فينا نحن أيضاً

يناير 12, 2024

A-

A+

مر أكثر من 3 أشهر على حرب غزة الحالية، في البدء كنت جالسة أتابع انتصارات 7 اكتوبر بعدم اكتراث أو اهتمام لمروري بفترة عصيبة وقتها، فكنت منزوية على حياتي الخاصة أكثر من أي شيء آخر، يوم تلو الآخر بدأت الأمور تظهر وبدأت الحرب تشتد، وبدأت أشعر بالخوف الساكن في قلوبنا جميعًا، على ما يحدث في غزة. بدأت حياتي تتأثر تدريجيًا، بداية من صديقي الغزاوي الذي كنت أحدثه كل يوم، واستيقظ لأقول له صباح الخير ونتحدث عن أخبارنا ونتبادل الضحكات والغضب العابرين للأثير. واختفى لمدة طويلة دون أن أعرف عنه شيئًا، وبدأت أشعر بالقلق والخوف من فقدانه بهذه البساطة. لم أكن لأتحمل خيبة جديدة تعصف بحياتي هكذا ودون إنذار.

بدأت أتابع الأخبار، ولا أشعر بشيء سوى المرارة والرعب، عدد القتلى غير مسبوق وتدمير المباني فاق كل التوقعات، وسماع عن مخططات تهجير ونوايا إسرائيلية مخيفة. أشعر بالخذلان والتخاذل من إنسانيتي ومن مصريتي وأنزوي على نفسي لأنني أنعم بحياة هانئة، مقابل كل ما يحدث أمامي ولا أستطيع تجاوزه أو المساعدة في تغييره. كنتُ أتابع المشهد الفلسطيني والأخبار باستمرار، وأغرد وأعيد النشر على حسابي على تويتر وإنستجرام، وأشعر بالخجل من نشر أي شيء غير ذلك. وأنتظر بلهفة انتهاء الحرب التي لم أكن أتوقع أنها ستزيد عن أسبوعين، ولكنها زادت.

على المستوى العملي والصحفي، توقفت كل كتاباتي وأعمالي، ولم تقبل أي منصة أي عمل أو كتابات، سوى ما يتعلق بفلسطين وحسب، وأُجل كل شيء آخر. حتى سفرياتي المرتقبة خارج مصر، والتي كنت أنتظرها بشدة، تم تأجيلها. لا بأس أن أنتظر. مر أسبوع واثنان وشهر واثنان، والعملية مستمرة وحياتي متوقفة على انتهاء الحرب. جسد منهك ورأس مكتظ بالأفكار، وعقل غير هادئ لا يستطيع تحمل كل هذا الشر والألم والحزن. أستيقظ من النوم فأفتح التلفزيون لأتابع الأخبار وأعد الموتى وأشاهد ركام البيوت وصرخات الأمهات، وأشعر بالاختناق والضيق من كل هذا الألم. وأقضي الباقي من يومي في حالة صمت وركود دون فعل أي شيء. لقد تعبت، متى ينتهي هذا كله؟

بالرغم أن الأمر يبدو بسيطًا، إذ يمكنني، بسهولة، أن أنسحب من المشهد وأغلق التلفزيون وأدير ظهري لكل شيء، لكني لا أستطيع فعل ذلك، فأشعر بالذنب من انسحابي، وأتساءل عمن ليس لديهم القدرة على الانسحاب. أشعر بالقلق من الفكرة وأتابع وأتضامن وأبكي على العائلات التي محيت بالكامل، ربما لم يعد هناك من يحزن عليهم، فأحزن أنا. شئت أم أبيت، لا شيء يظهر لي على وسائل التواصل الاجتماعي سوى أشلاء الموتى واستغاثة الأمهات، وحرقة دم من مؤيدي وداعمي الكيان المحتل. وفي نزولي للشارع لا حيوية معتادة ولا شيء كما كان، الكآبة تخيم على الجميع، واليأس بادٍ على عيون الكثيرين حتى وإن لم يرغبوا في إبداءه.

أفتقد صديقي الغزاوي وأبكي عليه بحرقة في أيام أخرى. نوبات من الرعب في كل مرة تنقطع فيها سبل التواصل، أحدثه يخبرني أنه بخير لكنه تعب، ولا أقدر على أن أخبره أن حياتي أنا متوقفة أيضًا. فأنا خجولة من قول ذلك ولدي سرير وبيت هادئ وعائلة لم تنقص بسبب حرب أو قذيفة. جسدي مشدود لكل ما يحدث ولم أعد قادرة على فعل أي شيء أو القيام من سريري، أو الحركة. لم تعد القصة قصة عمل متوقف أو حرب يبدو أنها لا تنتهي، بل يشبه الأمر نصف حياة، حياة معلقة تتربص المشهد بخوف واهتمام وتشعر بالمرارة إثر كل خبر مفجع.

بعيدًا عن دعوات المقاطعة ومشاهدة المظاهرات ومحاولة عدم نسيان ما يحدث وعدم الاعتياد على المشهد، إلا أن هناك غصة في قلبي، جزء مني ينظر للخلف ويتابع كل ما يحدث، وجزء آخر يرفض أن يمضي قدمًا ويتجاوز كل ما حدث بهذه البساطة.. روحي معلقة وقلبي يرتجف.. والشعور بالذنب يقتلني لأني هنا لازلت على قيد الحياة.

تمر الأيام ولا يزال قلبي معلقًا وبالي مشغول. رغم انغماسي في بعض المهام المرتبطة بعملي وسفري خارج مصر، إلا أن كل شيء صار مختلفًا. المدن تخيم عليها الكآبة، العالم حزين ومتخاذل. ما بين شعوري الشخصي بالخذلان لأني لا أملك سلاحًا أدافع به عما يحدث أو حتى أحتج، وما بين شعوري بالغضب لأن العالم كله أتفق هذه المرة على ألا ينقذ شعبًا لم يعد له أحد يدافع عنه. لا زلت أتابع المشهد وأنا أرغب بالبوح والحديث على وسائل التواصل الاجتماعي عن مشاعري وحياتي العادية، وأخجل، أخجل من مشاركة أغنية أو ذكر موقف حدث لي وغيري يموت، وأتعب من العد، عد أيام الحرب أو عد الأموات الذين تضربهم إسرائيل بلا هوادة. أشعر بسخافة كل شيء. قلبي معلق بانتظار انتهاء الحرب ولا أجد شيئًا لأفعله سوى كتابة هذه الكلمات.