


حين كانت المقاهي تنطق شعراً لا ترفاً
مايو 5, 2025
A-
A+
هل خطر لك يومًا، وأنت تتابع وثائقيًا قديماً أو تقرأ سطرًا في كتاب عن الزمن الجميل، ذلك الاسم المعلّق في زوايا الذاكرة: قهوة الفيشاوي؟
هل تساءلت عن سرّ توهجه، عن سبب حضوره المتكرّر كلما استُعيدت سيرة الأدب العربي، كأنّه معبدٌ للكلمة، أو منبرٌ لم ينتصب على حجرٍ بل على نَفَس القصيدة؟
لم تكن قهوة الفيشاوي وحدها، بل إلى جوارها امتدّت أسماء كأنها مقاطع من نثرٍ كلاسيكي: قهوة ريش، زهرة البستان، وغيرها كثير.
مقاهٍ لم تكن مقاعدها للجلوس، بل للانتصاب في حضرة الشعر، ولا فناجينها للشرب، بل للبوح. هناك، كان الشعراء يتصافحون بين قصيدةٍ وقصيدة، وكان الأدب يُدار كسرٍّ علني على طاولةٍ من دخان ومجادلات.
لكن الزمان انقلب، ومعه انقلب المزاج. جاءت السوشيل ميديا تحمل لنا كلمات سريعة، ساطعة، عابرة… ومقاهي الشعر؟ باتت ظلًا في أرشيف الصورة، وأثراً يتردّد صداه في الكتب الوثائقية، لا في شوارع المدينة.
واليوم، وسط هذا الطوفان الرقمي، يُطرح سؤالٌ عميق: هل يُمكن للكلمة أن تعود إلى كرسيّها الأول؟ هل تُبعث مقاهي الشعر من سباتها، فتغدو من جديد منصّاتٍ لا تُبثّ منها مقاطع قصيرة، بل تُروى فيها الحكايات الطويلة؟
قبل أن نغوص في السؤال الجوهري، دعنا نُمهل أنفسنا لحظة، ونتسلل في جولةٍ وادعة إلى عالم مقاهي الشعر والأدب، نمرّ بين طاولاتها كما لو كنّا نُصغي لنبض زمنٍ مضى، ونتخيّل، عن قرب لا عن حنين، كيف كانت الأرواح تُشتعل بالكلمة.
فلنفتح نوافذ الذاكرة، وندع المشهد يعيد نفسه كما كان: أقلام تكتب بلهفة، عيون تلمع بالفكرة، وصمتٌ فيه من الشعر أكثر مما في القصيدة.
قهوة الفيشاوى
تُعدّ من أقدم المقاهي الشعبية في القاهرة، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1797. مجرّد النظر إلى هذا التاريخ كفيل بأن يبعث الدهشة، فمقهى عربي لا يزال قائمًا ومتألقًا منذ أكثر من قرنين أمر نادر في حاضرنا. لكن سرّ التميّز الحقيقي للفيشاوي لا يكمن فقط في قِدمِها، بل في نخبة روّادها الذين شكّلوا ذاكرة الأدب العربي، من بينهم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس.
كثيراً ما اقترن اسم نجيب محفوظ بقهوة الفيشاوي، حتى غدت جزءً من هويته، تمامًا كما أصبح هو أحد معالمها الراسخة. ووصف علاقته بهذا المكان بقوله: “كنت أذهب إلى قهوة الفيشاوي كأنني ذاهب إلى بيتي الثاني، هناك تعلمت الاستماع إلى الناس، وهناك وُلدت كثير من شخصيات رواياتي، والمقهى هو المكان الوحيد الذي يمكنك فيه أن ترى المجتمع على طبيعته.”
أما يوسف إدريس، الذي اعتاد التردد على الفيشاوي وسواها من المقاهي، فعبّر عن عشقه لعادته بقوله: “المقهى هو المكان الذي أمارس فيه مهنتي الحقيقية، ألتقط التفاصيل، أسمع ما لا يقال، وأكتب من هناك.”
كما شكّلت هذه القهوة مقصداً لعدد من المسؤولين وقادة العالم، أبرزهم: الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة، والرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح.
ويُذكر أن المقهى يضم غرفة خاصة تُدعى “البوسفور”، كانت مخصصة للملك فاروق وكبار ضيوف مصر.
قهوة ريش
هل سمعت سابقًا عن مقهى جمع ندوات العقاد؟ أو جلسات نجيب محفوظ، وأحاديث توفيق الحكيم؟ جميعهم كانت وجهتهم واحدة: قهوة ريش.
ذلك المقهى العتيق، الذي وُلد في قلب القاهرة العام 1908، لم يكن مجرّد مكان لاحتساء القهوة، بل كان مسرحًا حيًّا للفكر والأدب والسياسة. هناك، اختلط دخان السجائر بأنفاس القصائد، وتعانقت صفحات الصحف مع ملامح الثائرين. لعبت ريش دورًا بالغ التأثير في ثورة 1919، إذ كانت أشبه بمرآة تعكس نبض الشارع، وتجمع الثوار.
تراجيديا الأدب في عصر السوشيال ميديا
لن ننكر أن للتكنولوجيا آثاراً إيجابية ساهمت في نشر المؤلفات على نطاق واسع وسهّلت الوصول إليها بكبسة زر، لكن عند التفكير قليلًا في هذا الأمر، ألم تكن هذه الآثار سببًا في تآكل العصر الذهبي للشعر والأدب وفتحت الباب لكل من هبّ ودبّ ليُسمّي نفسه أديبًا أو كاتبًا، في حين كل ما بحوذته من مؤلفات بالكاد تجد لها مكانًا حتى في عربات “الروبابيكيا”، بل والأكثر حزنًا أن هذه المؤلفات تحقق مبيعات تصل بالآلاف.
نحن لا نحجر على أحد أن يكتب ويعبر عن مكنوناته في حروف وكلمات وسطور بالشكل والطريقة التي يحب، طالما لا تخدش أي دين أو حياء أو مجتمع، لكن كما يُقال: أصبح لدينا مكتبات كثيرة لكن قراء أقل، ومؤلفات لا تُحصى تكفي لسنين طوال لكنها لا تزن كتابًا كلاسيكيًا واحدًا في قيمتها أو فائدتها، بل قد تكون أحيانًا مضلّة أو ضارة.
لا ننكر أن هناك مؤلفات جديدة تستحق التقدير، لكننا نركّز على أن الكتابة في عصر التكنولوجيا أصبحت سيفًا ذا حدّين. إذ أصبحنا في عصر، يكفي أن يمتلك أحدهم حسابًا عبر “فيسبوك”، ويطلق صفحة ينشر فيها كتاباته، ثم يحصل على مئة إعجاب، ليعلن عن نفسه كاتبًا، ويطمح لجائزة نوبل في الأدب. وعند النظر إلى كتاباته فتجد أن جائزة نوبل لو قرأت سطرًا واحداً، لأعلنت عن إغلاق فرع الأدب إلى الأبد حتى إشعار آخر.
الأدب والتأليف والكتابة والشعر وغير ذلك أصبح مجالَ من لا مجال له، والسوشيل ميديا باتت أداة تجعل من ما لا قيمة له ينتشر ويتغلغل إلى ملايين الهواتف.
ومع كل ذلك، اسمحوا لي أن أقول إن ليس كل من حمل القلم أصبح شاعرًا”.
المشكلة ليست في أن تكتب، بل في أن تدّعي أنك تتفوّق على من تركوا بصمتهم في التاريخ الأدبي، بينما لم تتعلّم بعد الفرق بين همزة القطع وألف الوصل.
صحيحٌ أن عصر الرقمنة سمح بانتشار المؤلفات ووصولها إلى عدد كبير من الناس، إلا أن هذا الأمر أعطى القيمة لمن لا يستحق بأن يكون ضمن هذا الانتشار.
عقولنا أصبحت الآن تستقبل الكثير من المؤلفات ولم نعد نستطعمها فأصبح العذب مثل المالح. وبالطبع لن أتطرق إلى الذوق الحالي في قراءة الروايات والكتب، فهذا حدّث ولا حرج حرفيًا.
هل تعود مقاهي الشعر والأدب في ظل عالم من الرقمنة؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، ربما يجدر بنا أن نتوقف قليلًا عند مفهومٍ أوسع: هل استبدلت الرقمنة الكتب الورقية؟ أو بتعبير أدق: هل غيّرت أسلوب القراءة الذي اعتاده الإنسان منذ قرون؟ ثم فلنذهب أبعد من ذلك: هل ألغى الحاسوب نمط الحياة اليومي الذي كان يعيشه البشر سابقاً؟
الإجابة من دون شك تتفاوت من مجال إلى آخر، لكن في الأدب والشعر، وبالأخص الصحافة، لا تزال الصحف الورقية تحتفظ بوجودٍ قوي، وتُحقّق مبيعات لا يُستهان بها.
وينطبق الأمر نفسه على صيغ الملفات الرقمية مثل الـPDF. فعلى الرغم من سهولتها وسرعتها، لا تزال هناك شريحة لا يُستهان بها من القرّاء تفضّل الكتاب الورقي، وتجد في رفوف المكتبة المنزلية بهجة ورونقًا لا يُمكن للمكتبات الرقمية على الشاشات أن تضاهيه.
فلنعد الآن إلى أصل السؤال: هل تعود مقاهي الشعر والأدب في ظل عالم من الرقمنة؟ الإجابة هي نعم ولا في الوقت نفسه.
بالتأكيد سمعت عن معارض الكتب فمن منا لا يعرفها. هذه المعارض تُعتبر امتدادًا حديثًا لمقاهي الأدب والشعر، وتضم ملتقيات أدبية جامعة لدور النشر والكتّاب والقرّاء، ومساحات للنقاش والمنافسات الأدبية، لكن عيبها أنها زمنية، مؤقتة، لا تدوم إلا أيامًا معدودة في السنة.
المشكلة، في الحقيقة، ليست في الإمكانيات، إذ لدينا ما يكفي من الموارد والثقافة والتجربة لنقيم معرضًا للكتاب كل شهر، ونؤسس لعشرات مقاهي الأدب النابضة. العائق الحقيقي ليس في القدرة، بل في النية والمضمون.
نحن نركّز على الشكل لا الجوهر. مكتباتنا فاخرة من حيث التصميم والواجهة، وتُكرّم عالميًا، لكنها غالبًا فارغة المحتوى أو ضعيفة القيمة الفكرية. تنتشر في كل حي تقريبًا، لكنها أقرب إلى قاعات عرض أنيقة لا نبض فيها. وعندما نتحدث عن مقهى شعر، يتبادر إلى أذهاننا الأثاث، الديكور، المساحة، وربما تصاميم فناجين القهوة. لكن، من يهتم بالمضمون؟ من يسأل: ما الذي سنقدّمه؟ من سيقرأ؟ من سيناقش؟ وما هي القيمة الحقيقية لهذه الجلسات؟
في الماضي، كان مقهى الشعر بسيطًا. كراسيه متآكلة أحيانًا، إنارته خافتة، وجدرانه لا تحمل سوى آثار الزمن؛ لكنه كان مشتعلًا بالأفكار. كان الأدباء يتزاحمون بالكلمة، لا بالصورة. يحمل أحدهم ورقة مهترئة، ويقف ليقرأ قصيدة أو يناقش رواية، والقلوب تصغي.
لم تكن المقاهي تزهو بالبهرجة، بل كانت قريبة من الناس، من حياتهم، من لغتهم ونبضهم. حتى في زمن النخبة، ظلّ الطابع الشعبي هو الحاكم، والوجدان الجمعي هو الجمهور.
لذلك، نعم، الأمل بعودة مقاهي الشعر والأدب موجود، لكن بشرط واحد: أن نعيد الاعتبار للمضمون لا للزينة، وأن نؤمن أن الأدب لا يُقدَّم في فناجين مزخرفة، بل يُسكب في العقول. ففي النهاية هو مقهى يا رجل وليس مكتب سفارة.
أنت يمكنك أن تكون مقهى للشعر والأدب في هذه الحياة، مع صديقك أو مجموعة من الأهل والأحباب. فالمقهى، في جوهره، ليس سوى لحظة تلاقٍ بين الأرواح على هدف مشترك، اسمه: الثقافة العامة.
ويا ليت الجميع يُدرك أن مقهى الشعر والأدب ليس حكرًا على مكان بعينه، إذ يمكن أن يكون في أي زاوية من العالم، حتى لو كان في غرفة منزل. فالقيمة ليست في الجدران، بل في الأرواح التي تجتمع على الكلمة، وفي الصحبة الصالحة التي تُنعش المعنى. فالهدف الحقيقي من المقهى هو الفائدة، لا تمضية الوقت فقط.
ولا بأس أن تتخلل البرنامج لحظات من الفكاهة والمرح، فهي ضرورية لكسر الرتابة وجعل الفكرة محبّبة، لكن كل جلسة يجب أن تُشكّل مساحة للمعرفة، وحقلًا يُزرع فيه العقل بفكرة جديدة.
فمثلاً، إن ناقشتم كتابًا، أو فكرة، أو نصًا، فلا تتركوا الجلسة من دون خلاصة تُحفظ، ووصايا تُكتب وتوزّع، ليأخذ كل حاضر منها ما يُغذّي فكره وحياته. فليكن هناك ملخص مكتوب لأبرز ما دار فيها، يُحفَظ للذاكرة، ويُراجَع عند الحاجة، ويُبنى عليه في الجلسات التالية، فالتوثيق روح الاستمرار، وعين التقييم.
بهذه الخطوات البسيطة، تبدأ الفكرة في التكوّن، وتُبعث مقاهي الشعر والأدب من جديد… لا من المباني، بل من الناس.
وفي نهاية المطاف، وعلى الرغم من وفرة أدوات الراحة والرفاهية والسرعة التي أتاحها هذا العصر للوصول إلى المعلومة، فإن الاستفادة منها على الصعيد الأدبي باتت شبه منعدمة. ففي زمن التيك توك، أصبحت قراءة كتاب كامل أمرًا مملًا في نظر الكثيرين، والغاية باتت تكمن في البحث عن ملخص سريع، وكأن الجهد المبذول في كتابة عشرات الصفحات على مدار شهور يمكن اختزاله في سطور قليلة تُقدَّم بالقيمة نفسها.
ولا يدرك كثيرون أن مجرد الاهتمام بالثقافة وبذل القليل من الجهد في هذا الزمن كفيل بأن يجعلهم يسبقون الملايين حرفيًا.
فقط بعض المجهود… واستثمارٌ حقيقي في الذات، هو كل ما تحتاجه. وبذلك يمكن لمقاهي الشعر والأدب أن تعود.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي