رومنسية الفقر في مسلسل التخدير الجماعي

مايو 2, 2025

A-

A+

دعونا نبدأ من حيث تنتهي الأخلاق عادةً: شاشة التلفزيون.

الفقير لا يُقدّم كضحية لمنظومة اقتصادية ـ سياسية مجرمة، بل كبطل تراجيدي رومانسي، يحبّ على الرغم من كل شيء، يعشق في قلب الجوع، يبتسم وسط الغبار، ويحدّق في الغروب من فوق أسطح مهترئة كأنه متصوّف عابر للزمن. وكأن الفقر، بدلاً من أن يكون علامة انهيار النظام، يتحوّل إلى خلفية شاعرية لحكاية وجدانية؛ لا حاجة فيها لأي تحليل طبقي أو مساءلة أخلاقية.

إنها ليست فقط عملية تجميل. إنها إعادة تصنيع الواقع نفسه، إذ يتم تطويع المعاناة داخل بنية روائية رومانسية تُطمئن الضمير الطبقي لا تهزّه. والمشاهد، المسكين، لا يرى الانفصال بين الشاشة والحقيقة، بل يتورّط عاطفيًا في الخدعة. يرى الفقير يبتسم، فيقول: “ما أجمل الحياة البسيطة!”، ناسيًا أن الحياة “البسيطة” هذه لا تُضاء بمولد الحيّ، بل بمعدّات تصوير احترافية.

الدراما الرمضانية اللبنانية تحوّلت إلى طقس جماعي من غسل الضمير. تُعرض الحلقات، فتبكي الأرستقراطية المتعبة من النعيم على حال الفقراء، تشارك المشهد على “الستوري”، ثم تكمّل سهرتها في مطعم يطلّ على مدينة تنهار.

هنا، تمامًا، تظهر الإيديولوجيا: إن الدراما لا تُخدر الوعي فقط، بل تعيد هندسته. تزرع فينا مفاهيم زائفة عن الخير والشر، عن الحبّ والمعاناة، عن الفقر والكرامة، وتُقنعنا أن المأساة الحقيقية هي فرصة روحية، وتجربة إنسانية راقية.

لكن، الحقيقة ليست في ما نراه، بل في ما نخفق في رؤيته داخل ما نراه. والمصيبة أن ما لا نراه هو البنية الجهنمية التي تُنتج هذا الفقر، والتي تحوّله إلى عرض جانبي في حفلة درامية.

في هذه الدراما، الغني شرّير لأنه غني. والفقير طيّب لأنه فقير. لا وجود للإنسان الحقيقي الذي يتناقض ويتألم ويخطئ ويكره ويبيع ضميره أحيانًا ليطعم أولاده. لا وجود للسؤال الحقيقي: ماذا يعني أن تكون فقيرًا؟ ليس على مستوى العاطفة، بل على مستوى الوجود. على مستوى الجسد، والخوف، والانكسار اليومي.

بدلاً من أن تُفجّر الدراما وعينا، تواسيه. وبدلاً من أن تزرع الغضب، تزرع الحنين.

ما الذي يحدث هنا فعلًا؟ نحن لا نشاهد دراما، نحن نستهلك وهمًا مريحًا، يُعيد إنتاج النظام بدلاً من أن يفضحه. نحصل على الفقير “الجميل”، “المهذّب”، “الشريف”، الذي يصلح أن يكون بطلًا في قصة حبّ، لا عنصرًا ثوريًا يهدّد البنية القائمة.

الفقر، في هذه الدراما، ليس دعوة للتمرّد، بل مساحة للتطهّر. أليس هذا هو جوهر الأيديولوجيا؟ أن تُقنعنا أن قبح الواقع هو مجرد اختلاف في الإضاءة؟

لكنّ الأثر الأعمق والأكثر خطورة، لا يظهر فقط في طبقات النعيم، بل في الطبقة الوسطى المعلّقة بين النجاة والغرق، وفي الفئات المهمّشة التي لم تعد قادرة على التمييز بين معاناتها الواقعية وبين نسختها “الفنية” المُهندَسة.

حين تشاهد هذه الدراما، لا تُدرك الطبقة الوسطى أنها أيضًا ضحية. بل تنظر من فوق كتفها إلى الفقير “الرومانسي” وتقول: “يا حرام… بس منيح إنو بعد في حبّ”، ثم تتابع حياتها وكأنّ شيئًا لم يكن. إنها تتماهى مع المأساة من دون أن تُقارب جذورها. وتتفاعل شعوريًا، لا سياسيًا. وتبكي على الفقير، لكنها لا تُشكّك بالنظام الذي جعلها هي الأخرى على شفير الفقر.

وهنا يكمن الجنون: الفقير الحقيقي، والمهمّش الحقيقي، يبدأ هو الآخر بتبنّي هذا الخطاب الرومانسي الزائف.  يصير يرى في ألمه “رسالة”، في جوعه “حكمة”، وفي تعاسته “نبلاً”. يضبط غضبه، يكبت تمرّده، لأنّ الدراما قالت له: اصبر، فالحبّ قادم.

لقد تحوّلت المعاناة اليومية إلى نص درامي داخلي يسكن الفرد، يعيد تشكيل لا شعوره، ويمنعه من الانفجار. إنها ليست فقط دراما، بل إعادة برمجة؛ برمجة للعاطفة، وبرمجة للذنب، وبرمجة للقبول.

وهكذا… لا يبقى لنا من الفقر إلا صورته المشذّبة.

فقرٌ بالإضاءة الدافئة، فقرٌ بموسيقى رومانسية، فقرٌ له حظّ في الحبّ أكثر من خرّيجي الجامعات في طوابير السفارات. 

بات الفقر في هذه الدراما، حالةً جمالية، كأنّه لوحةٌ تُعلَّق لا جرحٌ يُعاش.

لقد أُفرغت المأساة من معناها، وتمّ تحويل الألم إلى زينة ، ولم تعد الدراما تفضح النظام، بل تُزيّن نتائجه، تُقدّم الضحية لا كندّ، بل ككائن لطيف يستحق الحنان… لا العدالة. الفقير فيها لا يسأل: “من سرقني؟”، بل يقول: “أنا أحبّ على الرغم من كلّ شيء.”

وما هو الحبّ في هذا السياق؟

هو الأفيون الجديد، والبلسم السحري الذي يجعل من الوجع قصيدة، ومن الانهيار لحظة شجن، ومن الظلم فرصة للغفران.

وفي النهاية؟ لا أحد يُحاسب أحد؛ المجرم يختفي من الصورة، ويبقى الفقير يعشق… والجمهور يذرف دمعة… والدراما تكتب موسمًا جديدًا.

يا لها من صفقة. هذه ليست دراما، بل طقوس غسل دماغ جماعي، نُمارسها في رمضان، ونُصدّقها كلّ ليلة، ونمضي في حياتنا كأنّ الفقر هو قدرٌ جميل لا جريمة موصوفة. لكن الفقر ليس شاعرًا متجوّلًا.

الفقر كائنٌ متوحّش، يسكن بين ضلوعنا، يسرق النوم من عيون أمّهاتنا، ويقضم الكرامة بأسنان القروض والمساعدات؛ وكلّ مسلسلٍ يُخفي هذه الحقيقة هو شريك في الجريمة.

وحين تقول “ما أجمل البساطة”، فكّر جيدًا: هل هذه بساطة أم قناع على وجه الجريمة؟

في المرّة المقبلة، حين ترى فقيرًا يبتسم في مسلسل، لا تبتسم معه، بل اسأل نفسك: من أخرج هذا الكذب؟ ومن يدفع ثمنه؟ ومن يستفيد منه؟

ثم أطفئ التلفاز، وافتح النافذة، وانظر إلى العالم الحقيقي، حيث الفقر لا يحبّ، بل يعض.