سمير وجيزيل ومعركتي مع الذاكرة

يونيو 3, 2024

A-

A+

لا يبخل علينا البلد ولا المنطقة من أزمات ومصائب تنسينا كل شيء آخر كل بضعة أشهر. فالخوف الدائم من المستقبل ومن الحروب يجعل أي إنسان عقلاني ينسى القضايا المبدئية ويفكر بكيفية تجنب دمار منزله أو قصف مطاره الوحيد وعزله كلياً عن العالم الخارجي، الآمن ربما، لكن المجرم أيضاً.

لأول مرّة منذ صحوتي على القضايا السياسية – لا أذكر متى لكن في سنّ مبكر جداً – أنسى ذكرى اغتيال سمير قصير. في العادة أتذكر التاريخ وأنتظره سنوياً لنشر صورة – وكأن الصورة التي يراها بعض الأصدقاء ستغير أي شيء – أو لكتابة بعض السطور عن استمرار المسيرة، بعض السطور التي تبدو تافهة بغبغائية لي وأنا أقرؤها اليوم. لكن كان تذكر التاريخ وتواريخ اغتيال شخصيات أخرى، يعطيني بعضاً من الاطمئنان الداخلي الصبياني بأن كل شيء على حاله وزخم تحرير البلد مستمر.

نسيت الذكرى هذا العام، بفعل انشغال عقلي بالوضع الأمني، وعندما تذكرت من صور سمير قصير على صفحات بعض الأصدقاء، حزنت كثيراً لأني نسيت في هذا العام تحديداً، وهي الذكرى الأولى لاغتيال سمير قصير بعد رحيل جيزيل خوري رفيقة دربه والأمينة على ذكراه كل تلك السنوات. لم أتقبل أن أنسى الذكرى في السنة الأولى على رحيلها وكأني أقول إن القصة انتهت مع رحيل كُتّابها، فتمردت على نسياني وأردت أن أكتب هذا المقال لأعتذر من عقلي أولاً وأقوم بواجبي بتذكر من كان أشجع مني، ولم ييأس ويستسلم لقدر البلد والمنطقة على عمر الـ 25 كما فعلت أنا.

لم يستسلم لزواج غير ناجح فتعرف على جيزيل، ولم يستسلم للعقبات على طريق حبّهما، فيبدو أنه وجيزيل تزوجا بالفكر قبل الورق. لم يستسلم سمير قصير أمام التهديدات وتوسلات أمه وأبيه، لم يستسلم عند ملاحقته واحتجاز جواز سفره، وضرب تلامذته. لم يستسلم حتى عند تفجيره. بقي يظهر في كل انتفاضة وكل ساحة عربية تنادي بالحرية. في العام 2011 بعد 6 سنوات على اغتياله، كان الحاضر الأبرز في الثورة السورية، سمعنا كتاباته شعارات من حناجر الثوار، رأيناه يوم 17 تشرين في ساحة الشهداء، الأحب إلى قلبه، رأيناه جنب النهار وفي حرم هوفلين.

أما جيزيل، فغريب أمرها. في السنوات الماضية، كنت في كل سنة في مثل هذا الوقت أسأل نفسي، كيف يمكن لسيدة أن تفعل كل ما تفعله جيزيل سنوياً وتبقى بهذا الجمال الراقي؟ رأيتها بيروت. بجمالها وعلمها ورقيها ومثابرتها، وكم صعب أن أشبه أحداً ببيروت. لم أتحدث مع جيزيل شخصياً لأكثر من سلام، تمنيت لو فعلت، لكني ترددت في أخذ المبادرة، فسبق أن قابلت بعضاً من أبطال ذهني، وصدمت من اختلاف الشخص عن الشخصية. لم أرد أن أُخذل مجدّداً لكن على ما يبدو بعد أن سألت كل من عرفها، أني كنت سأعجب بشخصها أكثر، لو تعرفت عليها شخصياً.

لا أعلم من تعلّم عدم الاستسلام من مَن، هل جيزيل من سمير أم العكس؟ على مدى 18 عاماً، حملت جيزيل وزن اغتيال سمير قصير وحولت المناسبة إلى حدث يجمع كل ما يمثله سمير: الحرية، الصحافة، بيروت، المنطقة، والربيع. قادت مع أصدقاء سمير المؤسسة إلى مستويات قل نظيرها بين المؤسسات المحلية والإقليمية. دعمت المؤسسة الصحافة المستقلة في كل أنحاء العالم العربي، كما كان يفعل سمير قصير مع طلّابه. أنشأت جائزة حرية الصحافة لتكريم وتشجيع الصحافيين العرب على رفع الصوت. وثقت الانتهاكات بحق الصحافيين، واختارت بيروت، وبقيت المؤسسة فيها، ومنها لكل المنطقة كي تبقى بيروت كما أرادها سمير، منبر العالم العربي، ومنصته للتعبير بحرية. ومن الحقّ أن نقول إن صوت سمير قصير اليوم أعلى ربما مما كان عليه قبل اغتياله بفضل عمل المؤسسة وفريقها.

غداً سأحضر حفل جائزة سمير قصير لحرية الصحافة. حفل، انشغل بالي عليه صراحة، بعد رحيل جيزيل، فخشيت أن يتوقف، لا خوفاً على الحفل والجائزة، بل طمعاً بصورة بيروت ودورها في هذا المجال. لكن الجائزة مستمرة، والمهرجان مستمر والفريق مستمر، وسمير لم يُقتل وجيزيل لم تمت وبيروت يبدو أنها هنا، تعود للمرة الألف بعد الألف تسرق الأضواء مجدداً. قد يغيب خطاب جيزيل المبكي، الحقيقي عن جائزة هذا العام لكن جيزيل لن تغيب. قالت قبل رحيلها، بعينين دامعتين “مش حلو نترك بيروت” وها هي اليوم عادت إليها وامتزجت بها.

رحل سمير قصير تاركاً إرثاً من الكلمات التي لم تخمد، تاركاً حبّاً راسخاً في قلب جيزيل خوري، رفيقة دربه التي واصلت مسيرته بكلّ عزيمة وإصرار. اليوم، تُكمل بيروت مشوارها كمنبر للعالم العربي، ترفع صوتها عالياً ضدّ الظلم والقهر، حاملةً مشعل الحرية الذي أشعله سمير وجيزيل. صوتٌ لم يخرس، وروحٌ لا تُنسى، سمير قصير وجيزيل خوري، رمزان للحبّ والحرية في بيروت، رمزان لمدينة تُقاوم، تُقاوم.