


من الخسة نأتي وإلى الخسة سنعود
أبريل 30, 2025
A-
A+
“من وين بييجوا الولاد بابا”، يسأل سعيد البالغ من العمر ثمان سنوات. ” من الخسة يا بابا”، يقول الأب متهربًا ومن ثم يردف قائلًا “لمّا الأم والأب يقرروا يجيبوا ولاد، بروح الأب عند بياع الخس، وبيشتري منه خسة كبير كتييير. بجيبها على البيت، والأم بتفتحها، وبيطلع فيها ولد”. حملق سعيد عند سماعه المعلومة، وقرر منذ ذلك اليوم أن يمتنع عن أكل الخس، فهو لا يريد أن يتناول إخوته.
حكاية الخس مثلها مثل غيرها من الحكايات. فعدا عنها، هنالك قصة طائر اللقلق الذي يأتي بالولد فجاءةً في يوم من الأيام، أو تلك التي تروي كيف وجد الآباء الأبناء في الحديقة أو في كيس فحم أو بطاطا، أو تلك “الفاسقة” منها التي تزعم أنّ الطفل يكبر في بطن الأم بعد أن يقبّل الوالد الوالدة. تختلف القصص وتتنوع، وتتشابه بتهرب الأهل من التوعية الجنسية، حرجًا وتزعمًا بالحلال والحرام والعيب. فهو إذًا إما قلق من مناقشة الجنس مع الأولاد، أما خوف من توعيتهم “فيتفتحون” ويبدؤون بممارسة الفواحش، أي لحمايتهم. والإثنين يعودان إلى الموروثات، فأهل الأهل أيضًا لم يتناولوا معهم الحديث، بل تركوهم للاكتشاف بأنفسهم وذلك للأسباب نفسها. كما أيضًا، هما نتيجتان للجهل بترديات التستر عن الحقيقة. ففي آخر المطاف، سيكتشف الأولاد الحقيقة بأساليب شتى. فيمكن لأقرانهم أن يخبروهم عنها مثلًا أو أن يكتشفها الولد من خلال الإنترنت، وبكلتا الحالتين تتشوه صورة الجنس عند الولد. والإنترنت، اليوم، هو من أخطر الأسباب التي يجب أن تدفع الأهل إلى توعية أولادهم جنسيًا. فاحتمالية أن يتعرض الولد للمحتوى الجنسي اليوم عالية جدا رغم كلّ محاولات الأهل التضييقية. وإن نجحت محاولات حظر المحتوى، فيمكن أن يتعرض الطفل للتحرش أو التعدي الجنسي من خلال استغلال براءته كما حصل السنة الماضية في قضية عصابة اغتصاب الأطفال الذي كان على رأسهم الحلاق المشهور على التيك توك.
لا تقع مسؤولية التوعية الجنسية على الأهل فقط، فعلى المدارس والجمعيات المختصة مسؤولية أيضًا. كانت هذه المؤسسات تتعذر سابقًا بخوف من انتقاد الأهل ورفضهم لحصص التربية الجنسية بحجة اسهام هذه التوعية بتدهور أخلق الولد وب”الفلتان” الاجتماعي. أما اليوم، وفي عصر يمكن للطفل بكبسة زرّ أن يأتي بأي معلومة يريد، صحيحة كانت أو باطلة، فعلى المؤسسات العمل بجدّ على توعية الأهل أولًا قبل الأطفال، خصوصًا أنهم المصدر الأوليّ للمعلومات. فقد أثبتت الدراسات أنّ التوعية الجنسية السليمة تؤخر أول ممارسة جنسية (ولا تقربها كما هو مزعوم)، تزيد من استخدام الفرد لوسائل الحماية الجنسية، وموانع الحمل، وبذلك تقلل من انتشار الأمراض المتناقلة جنسيًا. بينما أُثبت أنّ الدعوة إلى التمنع الجنسيّ لم تفد في تأخير سن أول ممارسة جنسية ولا قللت من الأمراض المتناقلة جنسيًا، مؤكدة القول المتناقل في الدول العربية “الممنوع مرغوب” وأبيات أبو النواس المشهورة:
“دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراء وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ”
في عصرنا هذا، المباح كثير، لذلك، على الأهل أن يتحدوا قناعة أن باستطاعتهم إجبار أبنائهم على المشي في طريق معين، وأن يتخلوا عن الفكرة الوهمية “ولدي ما بيعملها”. تختلف بالتالي مهمة الأهل لتصبح توعوية، صريحة، نقاشية بحتة بدل أن تكون تهربيه أو إجبارية. فما يتهرب الأهل من اخباره لابنه اليوم، سيخبره إياه “تيك توك” غدا. فبإخفاء الأهل للحقيقة إن أتوا من الخسة فإلى الخسة يعودون.
الأكثر قراءة
- رقصة اولى حولها القدر الى الرقصة الاخيرة: نزيف الأقليّات مستمرّ فانيسا حبيب
- في خدمة الحريّة: مستمرون في مواجهة الهمجيين والبلطجيين والميليشيا محمد الغزاوي
- عن التروما التي تعشقنا وتحاول قتلنا كارل حدّاد
- مجموعة “بريكس” تتوسع: هل ينتهي عصر الدولار؟ رَهادة الصميدي