جائزة سمير قصير للسنة ١٩: بيروت تحتفل بالحريّة

يونيو 4, 2024

A-

A+

لا أعلم ما الفرق بين سرطانٍ خطف جيزيل خوري وقد عانى جسدها منه لسنتين، وآخر خطف سمير قصير منذ تسعة عشر عامًا، وما يزال حتّى اليوم ينهش بلبنان، وينتشر في جسد دولةٍ وشعبٍ وأرضٍ ليحوّلها إلى ثقبٍ يبتلع كلّ ما أو من لا يتماشى مع سواده.
يأتي موعد تسليم جائزة سمير قصير هذا العام بشيءٍ من خيبة الأمل، فهذه الجائزة ترفع راية حريّة الصحافة الّتي تميَّز بها لبنان عن جيرانه على مرّ عقودٍ طويلة، وبدأ يفقدها هذه المرّة ليس على يد غريبٍ محتلّ، بل بسواعد أبنائه الّذين يجاهرون بالمقاومة، وما فائدة المقاومة إن لم تؤمن بالحريّة؟


لم يكن سمير قصير يتخيّل أن يصل لبنانه إلى الوضع الّذي هو عليه، وكان يعلم جيّدًا الصّعوبات الّتي ترافق طرد جيش إحتلال بقي لثلاثة عقود، ثمّ طرد أعوانه وأزلامه وحلفائه من مواقع ومراكز القرار. لكنّه لم يتصوّر أن يكون استشهاده محطّةً من محطّات الهزيمة. وهو إلى جانب آخرون، كان يظنّ أنّ الإستشهاد ببسالة يولّد المزيد من الإرادة والأمل والقدرة على الصّمود، وإنتصارًا في نهاية المطاف. لكن على العكس، ترك غيابه فراغًا تملأه أقلامًا حبرها شديد السّواد وبنادق تتوه أفواهها.
أمّا جيزيل خوري، يُفتقد وجودها هذا العام إلى جانب زملائها من صحافيّين ومدافعين عن الحريّة، سيذكرون مسيرتها اللّامعة في هذا المجال ويكتسبون منها القوّة ليكملوا دربًا تزيد شقاءً. لامست جيزيل بعضًا من خيبات الأمل، وقد شهدت على عشرات المحطّات من مسيرة قضم كلّ متنفّس للحريّة في بلادها، من اغتيال زوجها سمير قصير حتّى اغتيال لقمان سليم، ناهيك عن التّهديدات ومذكّرات التّوقيف وملاحقة الكلمة الحرّة الّتي لا تقف على خاطر الطّغاة. ورغم ذلك، فهي الّتي قالت “ما تبقّى من جدار خوف سيُهدَم”.


في آخر مقابلة لها، ذرفت جيزيل دمعة أليمة وهي تتحدث عن بيروت الّتي اشتاقت لها ونسعى جميعًا لاسترداد دورها. بيروت الّتي كانت منارةً للشّرق وقد أضاءت المنطقة برمّتها بشعاع العلم والثقافة والحياة والحريّة. وتلاقت الحضارات في أزقّتها فأنتجت نموذجًا لا يوجد مثيلًا له في العالم. فجاء إليها الأحرار ومحبّو الحياة من كلّ صوبٍ ليجدوا بيروتًا صاخبة تزدحم ليلًا نهارًا بعُشّاقها.


هذه بيروت الّتي أحبّتها جيزيل وقضت كل ثانية من حياتها لتساهم في الحفاظ على ما تبقّى فيها وإعادة ما سُرقَ منها. أمّا اليوم وقد غادرتها إلى مكانٍ أفضل، ستبقى ترنو إلى بيروت من علياءها حيث لا مكان للخضوع والإذعان.
ومهما تحمل هذه الكلمات من صورة ونظرة تشاؤميّة حول هذا الواقع، إلّا أنّه مجرّد أن نستذكر هذه الشّخصيّات يصبح إستكمال المسيرة واجبًا أخلاقيًّا ووطنيًّا وحتّى إنسانيًّا، ويبقى الأمل دافعًا حتّى لو كاد لا يُرى على أرض الواقع.
وهكذا أراد رفاق وأصدقاء سمير قصير من خلال تأسيسهم للمؤسّسة الّتي تحمل إسمه، وتشجيعهم لأصحاب العقول النيّرة والأقلام الّتي لا تخشى مستبدّ. وهكذا ستبقى الصحافة الحرّة تفيض بنفسٍ جديدٍ واعدٍ ربّما يحصد في يومٍ من الأيّام زرع كلّ من بذل مجهودًا وتعبًا ودماء في سبيل الحريّة.